كنزٌ مدفونٌ يعيد إحياء إرث طريق الحرير

مات ستيرن
ترجمة: مي اسماعيل
بعد الكشف عن مجموعة قطع أثرية ثمينة من طريق الحرير؛ افتتحت أسرة تعيش في جبال الهملايا متحفا مُكرساً لأحد أواخر تجار ذلك الطريق الاسطوري.
كان "مزّمل حسين" في المدرسة الابتدائية حينما تساقطت أولى القنابل على الملعب المجاور لصفّه بمدينة "كارجيل" الجبلية ضمن مقاطعة لاداخ الهندية. وإذ تصاعد العنف منذ العام 1999 بما يُعرف بحرب كارجيل بين باكستان والهند؛ فرّ حسين وأسرته جنوبا إلى وادي "سورو" النائي. لاحقا، وبعدما أعلنت الهند الانتصار أواخر ذلك العام، وعادت الأُسر النازحة؛ استمع حسين إلى جده المريض وهو يطلب من أفراد الأسرة زيارة عقار قديم كان قد بناه جده الاكبر قرب سوق كارجيل، ليروا أن كان المنزل نجا من أهوال الحرب. وعندما فتح أعمام حسين مزلاجا صدئاً قديماً وألقوا نظرة عبر الأبواب الخشبية المنحوتة يدوياً؛ ظهرت أمامهم صناديق خشبية عليها أختام بأسماء مدن من حول العالم. وبعدما قاموا بإعداد بقعة معينة على الأرضية المتربة؛ بدأت الأسرة تُرتّب حريرا من الصين وأواني فضية من أفغانستان، وسجادا من بلاد فارس وفيروزا من التبت، وسروجا من منغوليا وصابونا فاخرا ومراهم من لندن ونيويورك وميونيخ.
لقد عثرت الاسرة على كنزٍ متروك؛ عبارة عن مجموعة سيجري تصنيفها لاحقا بكونها أفضل مجموعة عائلية من اللقى الأثرية لطريق الحرير في الهند؛ واكتشافا سيُغيّر مجرى حياة حسين. كان ذلك قبل أكثر من ربع قرن. أما اليوم، وبعد قرون من كونه طريقا حيويا (ومرعبا) لتجار طريق الحرير؛ لا يزال ممر "زوجي لا-Zoji La " الجبلي ضمن جبال الهمالايا يربط كشمير بمنطقة لاداخ يُعرف بأنه أحد أخطر الطرق على مستوى العالم.
جبال شاهقة ووديان جليديَّة
يقول كاتب المقال: "في طريقها إلى أعلى الجبل، نظرت بتوتر من نافذة السيارة نحو قمة جليدية على مستوى العين، وأرضية الوادي على عمق يفوق الألف متر. وبصرف النظر عن مدى قربي من النافذة؛ لم أستطع العثور على حافة الطريق الترابي؛ إذ لم يكن هناك سوى الهواء وهاوية عميقة للسقوط". يُدير حسين مع عائلته عدة مؤسسات؛ بما فيها فندقين ومتحفين ومنظمة غير حكومية للحفاظ على البيئة وخدمات المرشد السياحي. كان هذا هو مسار التنقل المعتاد بالنسبة له، وما كانت عائلته تخوض غماره منذ قرون.
يشرح كاتب المقال أنه قابل "حسين" لأول مرة خلال العام 2023 أثناء البحث عن النمور الثلجية شرق لاداخ؛ حيث روى له قصصا عن ارتباطه المذهل بطريق الحرير.. بدأت ذكريات حسين مع الحرب، ثم مقاربة الكنز المدفون، وانتهت بالتراضي. وبصفته عالم آثار مفتونا بتاريخ الجبال، أراد الكاتب معرفة المزيد. لذا، وبعد عامين، وجد نفسه في "زوجي لا" على خطى تجار طريق الحرير الذين كانوا (مثلنا) يأملون بالوصول إلى مركز التجارة التاريخي في كارجيل قبل حلول الليل.
تقع منطقة لاداخ الجبلية عند أقصى غرب جبال الهمالايا، ضمن الحدود المتنازع عليها بين الهند وباكستان والصين.. تهيمن قمم شاهقة ووديان جليدية شديدة الانحدار وهضاب جبلية شاسعة على المناظر الطبيعية، وتغطي حقول الشعير السهول الفيضية الرملية؛ وتزين أزهار التفاح والمشمش شديدة البياض الضفاف على طول نهر السند؛ وعلى أعالي التلال تتحرك النمور الثلجية ودببة الهملايا البنية مثل الأشباح باحثة عن وجبتها التالية. وبسبب موقعها عند مفترق طرق التجارة والفتوحات؛ تُعد لاداخ الحديثة موطنًا لمزيج من الثقافات؛ بما فيها البوذيون التبتيون والمسلمون وعدد من المجتمعات القبلية.
قصص عن الهويّة
طريق الحرير واحد من أكبر طرق التجارة البرية في العالم؛ ويمثل شبكة امتدت نحو 6400 كم ربطت أوروبا بأقصى شرق آسيا. ورغم تسميته على اسم الحرير الصيني الذي كانت النخبة الرومانية تستورده خلال القرن الأول الميلادي؛ فان نظام التجارة عبر القارات قد تأسس منذ وقت سابقٍ بكثير. وبمجرد انشائها، ساعدت شبكة التجارة على نقل الأفكار والأديان والسلع والعملات عبر العالم القديم. وإذ انقطع الاتصال بين أوروبا وشرق آسيا بحلول العام 1453 عندما قاطع العثمانيون الصين؛ حافظت أجزاء من طريق الحرير على بقائها إقليميا ضمن أماكن مثل لاداخ حتى وقت متأخر من القرن العشرين.
يتحدث حسين عن قرار أسرته بحماية كنز جدهم الاكبر ومشاركته مع الآخرين. في البدء لم تكن الاسرة واثقة مما ستفعله بتلك الأغراض القديمة، وخلال العام 2002 تناهى إلى مسامع علماء الأنثروبولوجيا بجامعة أتلانتيك فلوريدا؛ وهم كل من د. "جاكلين فوكس" و"ناصر خان" أقاويل عن تلك المجموعة، فسافرا للقاء حسين وأقاربه. ولأنهما كان يعلمان بأهمية تلك الأشياء القديمة؛ فقد شجعا الاسرة للحفاظ عليها خدمة للأجيال القادمة. وهكذا افتتحت الاسرة (مع وجود عمي حسين إدارةً واشرافاً) متحف "مونشي عزيز بهات" وسط كارجيل؛ حيث يرى الزائرون مئات الاشياء من طريق الحرير، التي تتراوح تواريخها من أقواس قرون الأغنام اللاداكية من القرن الثامن عشر إلى أنابيب المياه النحاسية الصينية من القرن التاسع عشر. ما يجعل هذا المتحف متميزا ومهماً بالنسبة لد. فوكس هي الروايات الشخصية والارتباط العائلي بالمجموعة؛ كما تقول: "لا يجب ولا ينبغي لهذا المتحف أن يكون مثل المتحف البريطاني أو متحف سميثسونيان؛ لأنه يُقدم منظوره الخاص الذي لا يقُدّر بثمن لكل من الجمهور المحلي والعالمي. ترتكز القصص هنا على الهوية، وهي الأمر المهم هنا للأحفاد.. تُقدّم الاسرة والمؤرخون المحليون فهماً بديلا عن الماضي عما تُقدمه السرديات الوطنية أو الدولية التي قد نراها في متاحف أكبر بالهند أو خارجاً..". بينما يُدير الأعمام مسار العمل اليومي بالمتحف؛ يُركّز حسين على مجال البحوث وتقصّي تاريخ عائلته؛ وهو التراث الذي يأمل أن يوفر فرصة لجذب الزوار.. والأهم من ذلك؛ مساعدة مجتمعه على التصالح مع ماضٍ صعب. يقول "أعجاز منشي" عم حسين: "أعتقد أن من المهم جداً أن يحاول كل شخص الحفاظ على تاريخه العائلي؛ وفي عصر التحديث كثيراً ما نبتعد عن جذورنا؛ ويجب علينا محاولة الحفاظ على تراثنا سليماً".
"مكان للتوقف (بين الممالك)"
وُلِد "منشي عزيز بهات" (جد حسين الأكبر) سنة 1866 قرب منطقة "لياه- Leh" (= تقسيم إداري في الهند يتبع ولاية جامو وكشمير. المترجمة) وسافر إلى كارجيل بعد انهاء دراسته في سكاردو (باكستان الحديثة). حينها كانت كارجيل معروفة بكونها عقدة هامة على "طريق المعاهدة"؛ وهو فرع من طريق الحرير القديم الذي يربط الصين بأواسط آسيا عبر كشمير. يشرح حسين قائلا: "ارتبطت كارجيل دائما بأجزاء متعددة من العالم، ويعني اسمها حرفيا: "مكان للتوقف (بين الممالك)". لكونه محاسبا ناجحا؛ انتقل بهات إلى كارجيل حيث افتتح مركزا تجاريا صغيرا، توسع بحلول عشرينيات القرن الماضي إلى سبعة متاجر ونزل للمسافرين وإسطبل للجمال والخيول وحيوانات الياك (= ثور التيبت. المترجمة) الكثيرة التي كان يستخدمها التجار للسفر مسافات طويلة ولمدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، من أماكن مثل مدينة "لاسا" (= عاصمة التبت) أو "ياركاند" (= مقاطعة في شينجيانغ اويغور الصينية). وعندما بلغ مركز بهات أوج إزدهاره آوى تجارا وبضائع تنقلوا بين آسيا الوسطى والهند والصين وأوروبا والأمريكيتين. ويمضي حسين قائلا: "وجدتُ من المثير للاهتمام إكتشاف مدى العولمة الحقيقية للمنطقة خلال ذلك الوقت.. لقد كانت هذه المنطقة عالمية حقا حينها". ولكن لم يُقدّر لأعمال بهات ان تستمر؛ إذ أُغلقت الحدود بين الهند وباكستان عام 1948 حينما جرى تقسيم الدولتين، مما أدى لتوقف كلي للتجارة بعيدة المدى من وإلى كارجيل. تقاعد بهات وهو من آواخر التجار المعروفين على مسار أحد الأقسام الأخيرة التي أُغلقت من طريق الحرير، وتوفي أواخر ذلك العام؛ يقول حسين: "عندما أغلق جدي الأكبر المبنى، ظلت الغرف مغلقة بالأقفال والمفاتيح لنحو نصف قرن تقريبا".
استحضار ذكرى الاسلاف
ما زال في التلال المطلة على وادي "موشكوه" بقية من مجموعات الصخور وأكياس الرمل المتبقية من حرب كارجيل. ولا تزال هذه المنطقة الواقعة على بعد بضعة كيلومترات فقط من الحدود الفعلية مع باكستان تتمتع (ومنذ انتهاء الصراع) بسمعة راسخة بين الهنود باعتبارها منطقة خطيرة مزقتها الحرب.
يشرح حسين قائلا: "بالنسبة لكارجيل وغيرها من الأماكن التي وَسَمَتها الحرب؛ اعتقد أن هناك أزمة هوية وغياب تام للافتخار بها، واعتقد أن السياحة وسيلة رائعة للمساعدة؛ فعندما يأتي الناس من الخارج إلى مجتمعك ويقدرون تراثك وتاريخك وثقافتك، يمكن أن يساعد ذلك على استعادة ذلك الافتخار".
أطلق حسين وشقيقه "تَفَضُّل" عام 2013، شركة "روتس لاداخ" (= جذور لاداخ) للسفر، وهي شركة تركز على التراث الطبيعي والثقافي لكارجيل. وبينما يقيم معظم زوار لاداخ بالقرب من العاصمة "ليه" لزيارة الأديرة البوذية والبحث عن نمور الثلج؛ يأمل حسين في دعوة المزيد من الناس إلى موطنه ببطء.. وعن ذلك يقول: "رؤيتنا هي تغيير الفكرة المسبقة عن منطقتنا بوصفها منطقة حرب، من خلال عدسة التراث. استحضر ذكرى أسلافي كثيرا، والأشخاص المثيرين للاهتمام الذين ربما التقوا بهم.. كارجيل اليوم هي موقع عبور، تماما كما كانت في الماضي، وأشعر أنني أواصل هذا الإرث من خلال استضافة المسافرين والضيوف." يسأل السكان أحيانا حسين عن الأخبار التي سمعها من العالم الخارجي.. وكما فعل أجداده؛ يتجه حسين نحو مجموعته المتعددة الثقافات من المسافرين المتعبين وينقل إليهم قصص السياسة والتجارة والأراضي البعيدة..
بي بي سي البريطانية (رحلات)