عهدٌ جديدٌ من التنافس بين القوى العظمى

باتريك إم كرونن
ترجمة: أنيس الصفار
يؤذن تنصيب "دونالد ترامب" رئيساً للولايات المتحدة، هو السابع والأربعون، بدخول عصر جديد من التنافس بين القوى العظمى. فخلال الأسابيع الأولى من هذا العام، عاشت واشنطن شعوراً عابراً بعودة الحياة إلى طبيعتها من خلال جلسات التثبيت في مجلس الشيوخ وخطاب الوداع الذي ألقاه "جو بايدن". حتى الإيماءات الممسرحة التي شهدتها جلسة الاستماع إلى "بيت هيغسيث" المرشح لمنصب وزير الدفاع، وتحذيرات بايدن من "مجمع الصناعات التكنولوجية"*، بدت مقيدة ومنضبطة مقارنة بالعاصفة السياسية التي يتوقع هبوبها في أعقاب تنصيب ترامب بعد أيام من ذلك. *(ملاحظة: مجمع الصناعات هو مفهوم اجتماعي اقتصادي حيث تتشابك الشركات في النظم أو المؤسسات الاجتماعية أو السياسية، مما يخلق أو يدعم اقتصادًا ربحيًا من هذه الأنظمة – عن موسوعة ويكيبيديا).
عبر خطابه الافتتاحي الثاني، ومن خلال سلسلة الأوامر التنفيذية، أكد الرئيس ترامب بما لا يقبل اللبس أن "شركة الولايات المتحدة" قد انتقلت الان إلى يد إدارة جديدة.
تحسس الميدان تأهباً للمواجهة
يوم التنصيب كان مؤشراً ايضاً على ما وصفته بكين ذات مرة بأنه "شكل جديد من أشكال العلاقة بين القوى العظمى". ورغم أن هذه قد تكون الجولة الثانية من نزال "ترامب – شي" فما من شك هناك بأن المكالمة الهاتفية التي جرت بين الزعيمين وكسرت الجليد قبل يوم التنصيب كانت بمثابة إشارة الإنطلاق لهذا السباق المحموم نحو تحقيق الأفضلية الستراتيجية بين أقوى رجلين في العالم.
فبعد وقت قصير من إظهار البيانات الصينية الرسمية أن بكين قد تمكنت من تحقيق هدف نمو ناتجها المحلي الاجمالي لعام 2024 بنسبة خمسة بالمئة اتصل الرئيس الصيني "شي جنبنغ" هاتفياً لإبلاغ الرئيس ترامب بأنه أرسل نائبه "هان شنغ" لحضور حفل التنصيب تعبيراً منه عما يكن من احترام وتبجيل للرئيس الأميركي. كان الرئيس شي منشغلاً أشد الانشغال بالإعداد لخطوات انتقامية محتملة إذا ما فرضت تعريفات كمركية إضافية وضوابط على الصادرات، بيد أن المكالمة الهاتفية رغم هذا قصد منها التحرك استباقاً لشؤون ستثير بلا شك مناقشات حامية بين الكتل المتنافسة لدى إدارة ترامب.
يتابع المراقبون عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ باهتمام ما ستتمخض عنه لعبة شد الحبل بين صقور الدفاع المنادين بشعار"السلام عن طريق القوة" وأنصار شركات التكنولوجيا الكبرى والشراكة التجارية.
أكد "مارك روبيو" وزير الخارجية خلال جلسة تثبيته أن الصين "هي الخصم الند الأشد قوّة وخطراً بين كل من واجهتهم هذه الأمة على الإطلاق"، على حد تعبيره. وأنحى روبيو باللوم على الصين لاتباعها أساليب "الكذب والقرصنة والاحتيال" ضمن طريقها لبلوغ منزلة القوة العظمى، ثم أكد على وجود ضرورة ملحّة لإصدار الموافقة على مبيعات السلاح المتأخرة إلى تايوان وتقليل اعتماد أميركا على الصين.
أما مستشار الأمن القومي "مايكل والتز" فقد أكد خلال حفل "استلام العصا" الذي نظمه معهد السلام الأميركي، وهو حدث يعقد كل أربع سنوات (ساهمت أنا في إطلاقه بصفتي مديراً لدراسات المعهد خلال العام 2001) على أهمية دعم الحزبين لمواجهة الصين. أشاد والتز بتعاون إدارة بايدن الستراتيجية مع حلفائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال مبادراتها الصغيرة مثل اتفاقية "أوكوس" (وهي اتفاقية أمنية ثلاثية بين استراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، والحوار الأمني الرباعي "كواد" والاتفاقيات ثلاثية الأطراف التي شملت الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين. هذه الشراكات أمّنت الأساس لخوض البحر المضطرب الذي قد يكون بانتظارنا.
بيد أن وجهات النظر الدفاعية القوية التقليدية هذه لم تكن القناعات الوحيدة المترسخة عميقاً لدى الإدارة الحالية، فهنالك مجموعة كبيرة من التحديات الاقتصادية والدفاعية تحت الانتظار، تتراوح ما بين اِنقاذ "تيك توك" والتهديد بضم تايوان قسراً إلى الصين، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين الرئيسيين الذين يركزون بحدة ليزرية على مسألة الرخاء. من الأمثلة الرمزية على هذا المنظور دعوة "سكوت بيسينت"؛ وزير الخزانة إلى "عصر اقتصادي ذهبي جديد"، حسب تعبيره.
فخطته التي تحمل الرمز "3-3-3" تضع على رأس أولوياتها الهيمنة على الطاقة وتنمية الناتج المحلي الإجمالي والإدارة المالية. اما الاجراءات المقترحة فتشمل خفض الضرائب ورفع الضوابط عن سلاسل التجهيز وتشجيع الاستثمارات الجديدة ودعم التعريفات الكمركية والتفاوض لأجل صفقات تجارية أكثر ملائمة، بما في ذلك مع الصين.
تجنب الصدام مع الصين
يتربع الرئيس ترامب بطبيعة الحال على رأس فريق من كبار المسؤولين اصحاب وجهات النظر المتباينة، لكن المتشددين والبراغماتيين معاً يأملون بإمكان استمالة "سان تزو" وبذا يتحقق الفوز دون معركة. السيناتور روبيو على الأقل أقر عند تثبيته بأن الرئيس ترامب يعتقد بإمكانية تجنب الصدام مع الصين، لكن يبقى التفاوض من موقع القوة هو المفتاح.
النفوذ الذي اكتسبه الرؤساء التنفيذيون لشركات التكنولوجيا الكبرى مؤخراً خلال إدارة ترامب الأولى يعد تذكيرا بمدى القوة والثقل اللذين صار يتمتع بهما القطاع الخاص في جانبي الصناعة والابتكار.
ففي إبان المنافسة المحتدمة مع الصين خلال إدارة بايدن لم تجلس تلك الشركات مسترخية مكتوفة اليدين، وقرار شركة "أبل" مثلاً بنقل بعض نشاطاتها إلى الهند عكس توجهاً نحو خفض الاعتماد على الصين، كما أوحى قرار الصين بعرقلة ذلك التحرك أن بكين لم تكن راغبة برؤية تلك الصناعات تنتقل منها إلى الخارج. من جهة أخرى، كان هناك من يخشون أن يلي فرض ترامب للتعريفات الكمركية اجراء مماثل يوجه إلى الدول الحليفة والصديقة. لذا حذر "هينغ تشي" سفير سنغافورة السابق لدى الولايات المتحدة من ان دول جنوب شرق آسيا، مثل سنغافورة، قد تكون من بين الخسائر الجانبية إذا ما فرضت الولايات المتحدة اجراءات حمائية تجارية صارمة.
الأجندة الفورية للإدارة الجديدة مفعمة بالطموح، فهي تشمل انهاء حرب أوكرانيا وإعادة تشكيل الشرق الأوسط مع احتمال عقد لقاء آخر مع رئيس كوريا الشمالية "كيم جونغ أون". بيد أن اللقاء المرتقب بين ترامب والرئيس الصيني "شي جنبنغ" لاحقا خلال هذه السنة سيكون بمثابة لحظة فاصلة على امتداد عهد جديد من المنافسة بين القوى الكبرى. والاحداث التي ستسبق عقد هذه القمة هي التي ستشكل المشهد الستراتيجي.
التحديات الاقتصادية الرئيسية تشمل التفاوض من اجل صفقة لانقاذ "تيك توك"، رغم فرار "اللاجئين" إلى تطبيقات صينية مثل "شياو هونغ شو" - التي تعني حرفياً "الكتاب الأحمر الصغير". تتمحور العلاقات الاقتصادية الثنائية حول الوضوح بشأن سياسات التبادل التجاري والتكنولوجيا، (مثل اسلوب "الساحة الصغيرة والسياج المرتفع" الذي وضعت تفاصيله الإدارة السابقة). أسباب القلق الستراتيجية، مثل الضوابط المفروضة على رقاقات اشباه الموصلات وأمن البيانات، هي التي ستهيمن على المناقشات خلال الأشهر المقبلة. مع ذلك لا يتوقع ان تتمكن ضوابط التصدير لوحدها من تخطي سرعة التقدم الصيني، والأمر شبيه كثيراً بعجز فرنسا أيام القرن الثامن عشر عن منع الثورة الصناعية في انكلترا.
السؤال الملحّ بالنسبة لترامب هو كيفية التحرك نحو صفقة تجارية ثانية، فاقتصاد الصين ذو السرعتين يتميز ببطء الاستهلاك والبناء مقابل سرعة الانتاج الصناعي والتصدير. أما الرئيس شي فقد كان يعد عدته لمواجهة التعرفات الكمركية وفقاً لدليل بكين، وذلك بفرض قيود على المعادن الحيوية النفيسة والأنظمة واجراءات الاكتفاء الذاتي. بيد أن تفاصيل الصفقة أدنى اهمية من عدة أوجه من مجمل التنافس على قواعد الطريق الواضحة.
تحركات صينيّة
يستعرض "ديفد ريني" من صحيفة "ذي إيكونومست" طموحات الصين بنظرة معمقة. فبعد قضائه السنوات الست الماضية في تلك الدولة يلاحظ رينيأان الصين تحاول مراجعة النظام الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، واضعة نفسها بموضع المدافع عن الوضع القائم بمواجهة الشعار السياسي "أميركا أولاً". يهدف الزعيم الصيني شي إلى إزاحة القيم الديمقراطية العالمية وإحلال "الأمن العالمي" محلها مع إشاعة نظام عالمي مؤات لسلطة التكنولوجيا – وتلك نقطة رددها بايدن عبر تحذيره بشأن "مجمع الصناعات التكنولوجية" أثناء خطاب الوداع.
إلا أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل يقيد كلتا الدولتين. فترامب يجازف بتلقي ردة فعل قوية بسبب التعريفات الكمركية، بينما يعتمد شي على الاسواق المتقدمة لدعم ستراتيجية الصين المعتمدة على التصدير مع السعي إلى تحقيق الاعتماد على الذات.
المنافسة سوف تأخذ بالاشتداد خاصة لدى مناطق جنوب الكرة الارضية، لا سيما بين دول مجموعة "بركس"، حيث وسعت الصين نفوذها خارج مناطق آسيا وصولاً إلى افريقيا وأميركا اللاتينية. وقد اهدى الرئيس شي مؤخراً الرئيس السريلانكي "أنورا كومارا" مصفاة نفط متطورة حديثة قيمتها اربعة مليارات دولار تقريبا مجاورة لميناء "هامبانتوتا"، الذي كان هو نفسه من ثمرات مبادرة الحزام والطريق السخية. كذلك توسعت تعاملات الرئيس شي مؤخراً مع الأمين العام لدولة فييتنام بينما شجعت روسيا على ضم فييتنام إلى مجموعة "بركس". كلا التحركان، بالإضافة إلى تحركات اخرى اتخذها "شي جنبنغ"، يشيران إلى أن الصين تأمل بإستباق حملة الضغط التي يفرضها ترامب عن طريق إقامة علاقات خارجية جديدة داخل الاسواق الناشئة.
تنشط الصين ايضاً بتقوية علاقاتها مع أوروبا والاقتصادات الاسيوية المتقدمة. فإذا كانت مقامرة ترامب لشراء غرينلاند قد بدت تجبراً من جانب أميركا بحق حلفائها وشركائها فالصين مستعدة للوثوب واستغلال مثل هذه التوترات، وكما يقول الباحث الصيني "وانغ جيسي" محذراً: "لقد حان دور أميركا للوقوع في الأخطاء."
أجندة الدفاع والأمن الأميركية
أجندة التنافس الدفاعي والأمني مفعمة بالتوترات اكثر حتى مما ذكرناه، حيث تواجه قاعدة الصناعات الدفاعية والقوات المسلحة تحت حكم ترامب تحولات أساسية وسوف يتسلط التركيز على النتائج الستراتيجية بدلاً من التجريب والاختبار. بل يبدو أن هناك مرتكزاً ممكناً بالنسبة لآسيا وهو يتطلب مشاركة أكثر بتحمل التكاليف من جانب الحلفاء وجهود تعاون موسعة في الفضاء ونقاط الاختناق على نطاق عالمي والفضاء السيبراني.
بيد أن نقاط الاندلاع الدفاعية الرئيسية التي ترتقبها منطقة تايوان وبحر الصين الجنوبي تتمثل بتهيئة الظروف القابلة لوقوع المواجهة. فتايوان تواجه تأزماً نفسياً متصاعداً جراء ما تكشف عن تحديث الجيش الصيني إمكانياته، علاوة على خطابه الحربي. فعلى سبيل المثال اتهم سفير الصين لدى استراليا نائب الرئيس التايواني "لاي تشنغ تي" ببذل مساعٍ نحو الاستقلال، وهذا يبين أن الضغط النفسي على تايوان سوف يزداد تفاقماً على مدى الأشهر المقبلة. في الوقت نفسه يوحي ما كشفته الصين عن امتلاكها أرصفة تجسير محمولة جديدة ومنصات برمائية كبيرة من طراز "076" ذات قدرة على دمج المنظومات غير المأهولة بطواقم أن هناك تقدماً حثيثاً صوب بناء قدرات الغزو.
بحر الصين الجنوبي سيشهد هو الآخر مياهاً اكثر هيجاناً، حيث اشتكت الفلبين مؤخراً من تصاعد العمليات الصينية ضمن المنطقة الرمادية، مثل نشر اعداد ضخمة من زوارق خفر السواحل متحدية مطالباتها الإقليمية، الأمر الذي يضيق السبل امام مانيلا ويدفعها إلى الجدار.
هذه المنازلة بين القوى العظمى ربما ستتضمن صراعات متزامنة وتعاوناً متنامياً بين القوى المناوئة مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران. وكما قال "جون راتكلف" خلال جلسة تثبيته مديراً لوكالة المخابرات المركزية فإن التنسيق المتزايد بين خصوم أميركا يشكل تحدياً أمنياً من أخطر ما واجهته الولايات المتحدة على الاطلاق. تخطيط الطوارئ سوف يصبح اكثر تعقيداً بشكل متصاعد.
لقد أولى الرئيس ترامب الصين الأولوية خلال فترة ولايته الأولى، وبعدها بثمان سنوات يحل عهد جديد من التنافس بين القوى العظمى، والسؤال الوحيد الآن يتركز على المسار الذي سيمضي فيه هذا التنافس.
عن مجلة "ذي ناشنال إنتريست" الأميركية