بغداد : موج إياد
تنطلق الصناعات اليدوية في رحلة تحديات كثيرة أمام اجتياح صناعات المكائن الحديثة، التي تتميز بسرعة الإنتاج واختزال الوقت والجهد، ما أدى إلى زيادة الطلب على المنتجات الصناعية أو استيرادها من الدول المجاورة بأسعار منخفضة وجودة متفاوتة. في المقابل، تراجعت الحرف اليدوية التقليدية، لتصبح سلعاً نادرة ومميزة في الأسواق، خاصة بالنسبة للسياح الأجانب، الذين يرون فيها نافذة على ثقافات وتقاليد المجتمع العراقي العريق.
في قلب العاصمة بغداد، وتحديدًا في شارع المتنبي، الذي يمتد على أطراف نهر دجلة، يلتقي الماضي بالحاضر، ويستمر التقليد العراقي العريق في التميز. هنا، حيث تعكس الأسواق ألوانًا من الثقافة والفن، يقف محمد أبو نور، صاحب محل مختص بالتحفيات والسلع اليدوية، ليشاركنا قصة تتعلق بصناعة مهددة بالاندثار، ولكنها لا تزال حية في قلوب العراقيين.
أبو نور، الذي ورث هذا المحل عن أجداده، يعرض منتجات يدوية عراقية تحمل طابعًا مميزًا يعكس تاريخ الحرف العراقية العريقة. في محله، تجد قطعًا فنية مصنوعة يدويًا، تختلف تمامًا عن المنتجات المستوردة التي تملأ الأسواق الأخرى، مثل تلك القادمة من الصين والهند. يقول: "المنتجات المستوردة تفتقر إلى الأصالة، ولا تحمل اللمسة العراقية التي تميز أعمالنا."
رغم إقبال السياح على هذه الحرف، إلا أن (أبو نور) لا يخفي قلقه من تراجع هذه الصناعات، بسبب تطور المكائن الصناعية التي تهيمن على سوق الإنتاج اليومي. ويضيف أبو نور: "المكائن الصناعية اختصرت الوقت والجهد، ما جعلت الكثير من الحرف اليدوية تتراجع. ومع تزايد الإقبال على المنتجات الصناعية، بدأت هذه الحرف تصبح نادرة."
المنتجات اليدوية، رغم تميزها، تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين لإنتاجها. لكن في ظل التقدم التكنولوجي، أصبحت المكائن الصناعية أكثر قدرة على إنتاج المنتجات نفسها بشكل أسرع وأقل تكلفة، ما جعل الصناعات اليدوية تصبح أقل شعبية. ورغم ذلك، يرى أبو نور أن الحرف اليدوية العراقية لا تزال تتمتع بميزة فريدة، فهي تتطلب مهارات يدوية أصيلة ومواهب ربانية تجعلها متميزة عن غيرها.
أما عن تحديات هذه الصناعات فيوضح أبو نور أن المواد الأولية أصبحت غالية الثمن ونادرة. "لقد أصبحت المواد التي نستخدمها في الصناعة صعبة المنال، وهذا يجعل الإنتاج أصعب وأكثر تكلفة. إذا لم يتم دعم هذه الصناعات، فإننا سنفقدها قريبًا."
هذه التحديات الاقتصادية ليست الوحيدة التي تواجه الحرف اليدوية العراقية. فالنقص في الاهتمام الحكومي، وعدم وجود آليات لدعم الحرفيين، زادا من صعوبة استمرار هذه الصناعات. وعلى الرغم من هذا، يقول أبو نور إن هناك رغبة حقيقية من قبل بعض الحرفيين في الحفاظ على هذه الصناعة وتطويرها، مشيرًا إلى أن السياح لا يزالون يأتون لشراء هذه المنتجات اليدوية التي تعكس جزءًا من هوية العراق.
من جانبه، يشير الباحث الثقافي عادل العرداوي إلى أن الصناعات اليدوية في العراق، تواجه خطر الانحسار والاندثار بسبب التفوق الواضح لصناعات المكائن الحديثة. ويقول العرداوي: "لقد تراجعت الصناعات اليدوية، بسبب توفر البدائل الحديثة التي تتمتع بأسعار منخفضة وجودة عالية، ما جعل الحرفيين يتوقفون عن العمل في هذه المجالات، لأن الجدوى الاقتصادية أصبحت شبه معدومة."
يضيف العرداوي أن الحل يكمن في إنشاء ورش ومعامل لصناعة الحرف اليدوية في مختلف مدن العراق، خصوصًا في بغداد، لتسويق هذه المنتجات محليًا ودوليًا، مشيرًا إلى أهمية دعم الحرفيين ماديًا ومعنويًا من خلال منح حكومية أو دعم من منظمات غير حكومية تهتم بالحفاظ على التراث الثقافي.
أما الباحث والمؤرخ محمد شاكر فيرى أن الصناعات اليدوية تمثل جزءًا حيويًا من التاريخ الثقافي العراقي، وتعد بمثابة مصدر فخر واعتزاز للمجتمع. "العراق غني بتنوعه الثقافي والجغرافي، ولديه تاريخ طويل في الصناعات اليدوية، التي تشمل صناعة الأنسجة النباتية والفخار والحديد والسجاد والجلود. هذه الصناعات ليست مجرد منتجات، بل هي جزء من هوية الشعب العراقي."
ويضيف شاكر: "تحتاج هذه الصناعات إلى حماية ودعم من أجل الحفاظ على التراث الثقافي العراقي. التطور التكنولوجي في العالم الحديث جعل المكائن تتفوق على الحرف اليدوية، لكن ذلك لا يجب أن يعني اختفاء هذه الحرف، بل يجب أن نعمل على إحيائها من خلال الدعم الحكومي والمجتمعي."
يتفق الباحثون والحرفيون على ضرورة إيجاد طرق جديدة لدعم الحرف اليدوية في العراق. يشير أبو نور إلى أن السياحة يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في الترويج لهذه الحرف، من خلال إقامة معارض محلية ودولية، لعرض المنتجات اليدوية العراقية التي تعكس تاريخ وثقافة العراق. ويؤكد أن الحوافز المادية والاهتمام الحكومي يمكن أن يساعد في دعم الحرفيين المحليين ويشجعهم على تطوير مهاراتهم.