كثيراً ما تغنى الساسة ظاهراً بتاريخ العراق وأرثه وماضيه ، ونسوا الحاضر والمستقبل. ويا ليت هذا التغني كان نابعاً عن إيمان وعقيدة، فكثير من الحكام تعلق واقعاً بأستار الماضي وأضاع الحاضر والمستقبل عن عجز أو كسل أو تراخ. لكن أن يضيع الحاكم الماضي والحاضر والتاريخ فذاك الفشل والخيانة بذاتها . فليس أعمق من بابل تاريخاً وأصالة ، وليس أثرى من بابل أدباً وشعراً ونثراً ، وليس كبابل موقعاً وأرضاً ووسطية ، وليس أكثر من بابل إهمالاً وتناسياً وتغافلا. فلو قدر لبابل أن تكون مدينة في بلد آخر ، لكان لها شأن مختلف ، ورعاية تنسجم وعمقها وأصالتها وحاضر أهلها .
آه بابل مَنَ الله عليك بكل النعم إلا نعمة المنصف الراعي . قصدك المحتل والغاصب والحاقد في محاولة للنيل من عراقتك ، فزال وأنت باقية ، واستهدفك الراحل من الحكام في محاولة لدخول أرثك فزالوا ولم تكتب بابل في صفحاتها إلا إساءتهم وعبثيتهم وتخريبهم ، فأرث بابل شاهد على الماضي
والحاضر .
في البلاد التي شح فيها الأثر يسارع الحكام من البناة إلى اختلاقه للتدليل على عمق المدينة وتاريخها وليس فيها واقعاً من الأثر شيء ، وفي بلادنا يطفو الأثر على الأرض ونحن نتنكر له ، فمن أين يبدأ الأثر في العراق وإلى أين ينتهي ، هل يبدأ في نينوى التي استهدفها الحقد الداعشي في محاولة لطمس أرث وتاريخ فأبى ذاك الأثر الثر إلا أن ينتصر وينهزم أعداؤه ؟ أم من ناصرية التراث والأصالة ، ناصرية الشعر والفن ، ناصرية المضائف والضفاف ؟ أم من العاصمة التي أرشف تاريخها لأمة وشعب وانتصارات وآثار ووقائع ؟ أم من المحتفى بها اليوم بابل ؟ التي أبهرت العالم والقادة وأطربت بترانيمها الآذان ، فراح العالم يناصرها في محاولة للانتصار لها ولما حملت من تاريخ وأرث وأثر ، عادت بابل لتنتصر من جديد وإن تأخر نصرها بعد أن قرر العالم إدراجها على لائحة التراث العالمي ، فبابل لم تدرج محاباة أو مداهنة كما أدرج غيرها ، ولم يلعب المال برأس من نصر وناصر وانتصر ، فقد وقف العالم منتصراً لمن ظلمت على مدى قرون وعقود ، فنصر بابل اليوم نصر للإرث العالمي ، فبابل بما تحمل تضيف ولا يضاف لها ، تثري وتغني وترفع وتقدم وتنتصر .
لقد وقف الجهد الرسمي والثقافي والشعبي والوطني صفاً واحداً لنصرة المقهورة بابل ، فمضى الجميع باتجاه واحد ، حيث وحدت الأصالة الجميع ورصت الصف ، بعدما فرقت سياسات الماضين وبعض من تصدى بعد التغيير الصف الواحد ، فأضافت بابل نصراً جديداً للعراق . لكن العبرة ليس في ما تحقق من نصر ، لكن العبرة في إدامة النصر.
فمقتضيات استمرار الإدراج توجب توفير الكثير من المستلزمات ، فعلى الجهد الرسمي ينبغي توفير هذه المستلزمات كي تبقى بابل عضواً في القائمة بل عروسها ، ليس هذا حسب ولكن كي يثبت الموقف الرسمي أنه أهل لما قطع للعالم المساند لاسيما أن قرار الإدراج صدر بإجماع المجتمعين ، وهو قرار نادرا ما يصدر بهذه الأغلبية ، ويقيناً أن أصالة بابل هي من فرضت احترام الجميع ، لكن العرفان بجهد من بذل واتصل وهيأ وقدم وعرض يقتضي الشكر
والتقدير . لقد عانت بابل ولما تزل الإهمال والتجاهل حتى يظن المقبل عليها زائراً أو عابراً أنها مدينة منسية ، فقدم المباني ، وتقادم الطرق ، وتهالك الشبكات ، ليس دليل التمسك بالأصالة والتعلق بأستار الماضي والتفاخر بالإرث لكنه دليل استهداف الماضين وإهمال القائمين ، فبابل بحاجة للمبنى والطريق والمنتدى والمشفى والمتحف والمسرح والمكتبة والواجهة والمتنزه والقائمة تطول ، فإذا كانت هذه معاناة بابل فماذا توفر لها ؟ وماذا قدم لها الماضون والقائمون .
ويقيناً أن بابل بذاتها وعلى الأثر قادرة لأن تتحول إلى نفط ثان ، فاقتصادات دول قامت ونهضت على الأثر ، لكن هذا المورد يقتضي المقدمات الضرورية من بنى تحتية ، بدءاً بالمبنى مروراً بالنقل والمرشد والمرفق والسوق والمطعم والأمن ، وهي مقدمات من المؤسف أن لا تتوفر في بلد أغنى وأعاش وقدم وناصر شعوباً ودولاً ، فأنقذها من شح
وانتشلها من جوع .على القادم الجديد أن يضع نصب عينه أن التاريخ يخلد، وبابل تذكر من أنصف وقدم وأنشأ ، ومن استهدف وأهمل وتقاعس ، فلكل نصيبه في صفحات التاريخ إن لم يكن اليوم ففي الغد
القريب .