العنف الأسري.. الضحايا يخشون المجتمع أكثر من الجناة

ريبورتاج 2025/02/27
...

 بغداد : نوارة محمد 


في ظل صمتٍ يخيّم على كثير من البيوت، تتصاعد أصوات المعاناة خلف الجدران، حيث تحولت الحياة الأسرية إلى ساحة صراع يومي. وفقاً لإحصائية صادمة صدرت عن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، وصلت حالات العنف الأسري خلال السنوات الثلاث الماضية إلى 53 ألف حالة، 75 % منها كانت اعتداءات زوجية ضد الزوجات. لكن هذه الأرقام، كما يؤكد خبراء، ليست سوى قمة جبل الجليد، فالكثير من الحالات لا تُسجل بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية أو عدم الثقة في الجهات الرسمية.

أعراف وتقاليد اجتماعيَّة

في سنة 2025، ما زال الخوف والوصمة الاجتماعية يسيطران على حياة الكثيرين في العراق، حيث يتردد الضحايا في تقديم شكاوى ضد المعنفين وصناع الموت. بل أن البعض يختارون التستر على الجناة، ما يعرقل سير العدالة ويسمح باستمرار هذه الظاهرة المظلمة. تقول (ف.ب)، التي رفضت الكشف عن اسمها خوفاً من الانتقام، إنها واحدة من آلاف النساء اللواتي فضلن الصمت على مواجهة العنف. هي وأختها كانتا ضحيتين للعنف الأسري، لكن معاناتهما الطويلة انتهت بفاجعة مروعة، هي مقتل اختها على يد أخيهما الأكبر. هذه القصة ليست مجرد حالة معزولة، بل هي صورة مأساوية تعكس واقعاً مريراً يعيشه الكثيرون خلف أبواب مغلقة.

تبين (ف.ب): "لم نكن قادرين على تقديم شكوى ضد أحد أفراد الأسرة بحسب العرف العشائري والتقاليد الاجتماعية، ووفقاً لما تنص عليه، بأن الأخ الأكبر مخول بفعل ما يشاء، وعلى الرغم من أننا كنا نشتكي لوالدي مما نعانيه، لكن دون جدوى، كان يلتمس له الأعذار بأن عمله مجهد، وهو يفعل ذلك في أوقات غضبه فقط". 

وتضيف: "الأسرة تغاضت عما كنا نعيشه من صراع حتى عندما كسر ساعدي تلقيت العلاج في عيادة غير رسمية، كي لا تسجل كحالة عنف أسري وتجنباً لسؤال وجواب قد يضعان أخي في دوامة المساءلة القانونية، مشيرة إلى أن التغاضي عن معاناتهما أدى إلى وفاة أختها التي لم تتجاوز الواحد والعشرين عاماً."


الحماية القانونيَّة 

انتظار المصادقة على مشروع قانون مناهضة العنف الأسري في العراق منذ أكثر من 4 سنوات، أدى إلى ارتفاع نسب الجرائم الناجمة عن العنف الأسري الذي شهد ارتفاعاً ملحوظاً.

القاضي هادي عزيز يبين لـ (الصباح) : "أن الحكومة السابقة التي أقرت مشروع قانون مناهضة العنف الأسري في 2020، لم تتمكن من تطبيقه وواجه معارضة شديدة عند طرحه، لذا يكون من المتعذر إصدار تشريعات تنصف المرأة أو تحميها من العنف الاسري".

وأكد بالقول "ثبت من الناحية الإحصائية زيادة حالات العنف الأسري وتنوع أشكاله"، مشيراً إلى أن التشريعات النافدة حالياً، وخاصة للجرائم التي تمس الأسرة الواردة في الفصل الرابع من الباب الثامن من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل لم تعد كافية لتغطية أشكال العنف التي تتعرض لها المرأة وهي بحاجة إلى نصوص جديدة تستجيب لحكم الزمن وتطوره .

وشدد القاضي عزيز على أن وجود قانون لمناهضة العنف الأسري يعد استجابة لحكم المادة 29 / رابعاً من الدستور التي تنص  على : "تمنع كل أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمدرسة والمجتمع"، وإن عدم وجود مثل هذا القانون يعني تعطيل النص الدستوري.

كما أن مشروع قانون حماية الطفل، - والحديث للقاضي- وضعت نصوصه بعيداً عن أحكام اتفاقية الطفل التي صادق عليها العراق بالقانون رقم 3 لسنة 1994 . وفي الوقت ذاته هناك جهة أخرى كتبت مشروع قانون رعاية الأحدات، ورغم أن المشروعين عبارة عن خطاب موجه لفئة اجتماعية واحدة، إلا أنه يلاحظ غياب التنسيق بينهما، لا بل أن أياً منهما لا يعرف عمل الآخر. وأشار عزيز أيضاً إلى أن التشريع وحده لا يحد من العنف الأسري، ولا القضاء حتى أنهما آليتان تسهمان مع الآليات الأخرى للحد من هذه الظاهرة.


أسباب اجتماعيَّة واقتصاديَّة 

يتحول العنف الأسري من مجرد حالات فردية متفرقة إلى ظاهرة خطيرة تتفشى في المجتمعات التي تعاني من التخلف والأمية 

وسوء الأوضاع الاقتصادية، ما يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية 

للأفراد. 

وتلعب حالات الإدمان على الكحول والمخدرات دوراً كبيراً في تفاقم هذه الظاهرة، حيث تزيد من حدة العنف وتجعله أكثر تدميراً.

في هذا السياق، يشير الكاتب والصحفي معد فياض إلى أن هناك العديد من الأسباب الكامنة وراء ارتفاع معدلات العنف الأسري في العراق. من بين هذه الأسباب تجذر العنف في الثقافة المجتمعية، إضافة إلى القوانين التي تمنح الزوج أو الأب صلاحية "تأديب" زوجته وأطفاله، ما يعطي شرعية غير مباشرة لممارسات العنف. كما أن مستوى العنف في الشارع العراقي، الذي يعكس حالة عدم الاستقرار العام، ينعكس سلباً على الأسرة، حيث يتحول المنزل من ملاذ آمن إلى ساحة صراع.

ويضيف فياض أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية تلعب دوراً محورياً في استشراء هذه الظاهرة. فالبطالة والفقر، اللذان يعاني منهما جزء كبير من المجتمع، يزيدان من حدة التوترات الأسرية ويقللان من القدرة على التعامل معها بشكل سلمي.

كما أن انتشار المخدرات، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الاقتصادية الصعبة، يسهم في تفاقم المشكلة، كما يقول فياض، حيث يفقد المدمنون السيطرة على تصرفاتهم ويصبحون أكثر عرضة لارتكاب أعمال 

عنف.

ونوه بأن هذه العوامل المتشابكة تخلق بيئة خصبة لاستمرار العنف الأسري، ما يتطلب تدخلاً عاجلاً وشاملاً من قبل الجهات المعنية لمعالجة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة، بدءاً من تعزيز التشريعات التي تحمي الضحايا، ومروراً بتحسين الأوضاع الاقتصادية، ووصولاً إلى توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأسر التي تعاني من هذه المشكلة.

وتابع الكاتب والصحفي معد فياض حديثه قائلاً: "العنف الأسري ظاهرة ذكورية بامتياز، تتفاقم لدى الأشخاص العصابيين الذين يستخدمون أفراد أسرهم، وخاصة الزوجة والأبناء، كوسيلة لتفريغ مشاعرهم السلبية، وكأنه نوع من 'العلاج السلبي' الذي يزيد الطين بلة. دون الخوض في تفاصيل الحالات والأسباب الكثيرة، فإن تكرار ممارسة العنف يؤدي إلى تشوهات نفسية وجسدية بعيدة المدى، تترك آثاراً لا تُمحى على الضحايا."

كما تواجه منظمات المجتمع المدني صعوبات جمة في معالجة هذه القضية، وفقاً لفياض، الذي يرجع السبب إلى العادات والتقاليد الاجتماعية المقيدة، إضافة إلى شح الدعم المادي اللازم لإقامة بيوت آمنة لإيواء النساء والأطفال واليافعين المعنفين". 

وأضاف أن "إهمال هذه الظاهرة يمنح الرجال حرية غير شرعية أو قانونية لممارسة العنف ضد أسرهم"، مشدداً على وجوب "دق ناقوس الخطر الآن، قبل أن يتحول العنف إلى ممارسة اعتيادية يصعب القضاء 

عليها".


تفعيل الرأي العام 

ترى الناشطة المدنية ومنسقة شبكة النساء العراقيات، رؤى خلف، أن ارتفاع حالات الإبلاغ عن العنف الأسري في الفترة الأخيرة يعود إلى وجود دائرة الحماية من العنف الأسري والإجراءات الحكومية الأخرى التي بدأت تعمل على الحد من هذه الظاهرة. وقالت خلف: "نحن بحاجة إلى تفعيل الرأي العام، وبحاجة أكثر إلى فضح ما يحدث داخل الأسر من جرائم خطيرة تشهدها البلاد". وأضافت: "النضال مستمر، ومحاولات التوعية وتحريك الرأي العام وتقديم المقترحات التشريعية والقانونية، إضافة إلى نشر القصص، ما زالت جارية بين الناشطين المدنيين والمهتمين بالشأن الإنساني. لكننا للأسف لم نجد استجابة حقيقية وملموسة من الجهات المعنية." وأكدت خلف الحاجة إلى إجراءات أكثر صرامة للحد من العنف الأسري، معتبرة أن أهم خطوة في هذا المجال هي تشريع قانون ينظم هذه القضية بشكل واضح وفعال. وقالت: "نحن بحاجة إلى قوانين تحمي الضحايا وتضمن تطبيق العقوبات على الجناة، مع توفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا.

" من جانبها، أوضحت المحامية مروة عبد الرضا أن الجهات المسؤولة تبذل قصارى جهدها في اتخاذ الإجراءات اللازمة عند ورود شكاوى من أحد الأطراف، أو عند تلقيها بلاغات عن وقوع حوادث عنف أسري. وقالت: "هنالك عقوبات صارمة ورادعة عالجها قانون العقوبات، حيث شرع عقاباً لكل اعتداء، سواء كان جسدياً أو لفظياً أو معنوياً."

لكن عبد الرضا أشارت إلى أن ما يعيق تطبيق هذه القوانين وعدم نفاذها بشكل كامل في المجتمع هو امتناع العديد من الأسر عن تقديم شكاوى رسمية، خوفاً من ردود فعل المجتمع أو التفكك الأسري. وقالت: "نعم، هنالك قوانين، لكننا بحاجة إلى تشريعات أكثر حزماً وإلى تغيير الثقافة المجتمعية التي تتسامح مع العنف الأسري."

ختاماً، تؤكد كل من رؤى خلف ومروة عبد الرضا أن مواجهة العنف الأسري تتطلب جهوداً متكاملة، تشمل تعزيز التشريعات، وتوفير الحماية للضحايا، وتغيير العقلية المجتمعية التي تتغاضى عن هذه الممارسات.