تسريب الوثائق.. وسائل التواصل تتحوَّل إلى ساحة لتداول أسرار الدولة

ريبورتاج 2025/03/03
...

  بغداد: موج إياد

  تصوير: علي قاسم


باتت ظاهرة تسريب الوثائق الرسمية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في العصر الرقمي، إذ لم تعد تقتصر على الكشف عن معلومات حساسة، بل أصبحت أداة تُستخدم في الصراعات السياسية والتنافس الإعلامي. وبينما يرى البعض أن نشر هذه الوثائق يحقق الشفافية وحق الجمهور في المعرفة، يحذر آخرون من تداعياتها الخطيرة، خاصة عندما تُستغل لتحقيق مصالح شخصية أو سياسية أو حتى لتنفيذ أجندات خارجية تهدد الأمن القومي.

ومع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الوثائق الحكومية المسربة تنتشر بسرعة غير مسبوقة، مما يزيد من صعوبة احتوائها أو التحقق من صحتها، ويطرح تساؤلات مهمة حول آليات التسريب ودوافعه والتحديات التي تواجه المؤسسات الحكومية في الحد من هذه الظاهرة


كيف يتم تسريب الوثائق الرسمية؟

وفقًا للخبير في الأمن السيبراني مصطفى الموسوي، فإن هناك عدة طرق وأسباب لتسريب الوثائق الحكومية أبرزها إساءة استخدام الصلاحيات الوظيفية، حيث يقوم بعض الموظفين الذين يمتلكون حق الوصول إلى معلومات سرية بتسريبها عمدًا، إما بدافع الانتقام، أو نتيجة لتأثيرات سياسية، أو حتى بغرض الحصول على مكاسب مالية. 

إضافة إلى ذلك، يقول الموسوي ان الاختراقات الإلكترونية تمثل أحد أخطر الوسائل، حيث تستهدف الجماعات المتخصصة في القرصنة الأنظمة الحكومية بهدف سرقة الوثائق السرية، مما يتيح استخدامها لاحقًا في الضغط السياسي أو الابتزاز أو حتى نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار.

ويضيف لـ"الصباح" قائلا: "كما أن الإهمال في التعامل مع البيانات يعد من الأسباب الشائعة للتسريب، إذ يؤدي ضعف إجراءات الحماية في بعض المؤسسات الحكومية إلى تسرب الوثائق بشكل غير مقصود، خاصة عند استخدام وسائل تخزين غير آمنة أو مشاركة الملفات عبر قنوات غير محمية".

ويؤكد الموسوي أن استخدام تقنيات التشفير الحديثة وتطبيق آليات تتبع الوصول إلى الوثائق يمكن أن يحدّ من هذه التسريبات، إلا أن التحدي الأكبر يظل في التوعية والتدريب الأمني للموظفين لمنع أي استغلال داخلي للمعلومات الحساسة.

لماذا يتم تسريب الوثائق؟

يعتبر المحلل السياسي مخلد حازم أن نشر الوثائق المسربة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يخدم أهدافًا متنوعة، منها التأثير على الرأي العام، حيث تعتمد بعض الجهات على تسريب وثائق حكومية حساسة بهدف توجيه الرأي العام ضد شخصيات سياسية معينة أو إثارة الجدل حول قضايا حكومية، خصوصًا خلال الفترات الانتخابية. ويضيف لـ"الصباح": كما تُستخدم هذه التسريبات في بعض الأحيان كورقة ضغط سياسي لإجبار الحكومات على اتخاذ قرارات معينة أو التأثير على مسار التحقيقات في قضايا حساسة. إضافة إلى ذلك، يؤكد حازم أن بعض وسائل الإعلام تسعى إلى تحقيق سبق صحفي من خلال نشر الوثائق المسربة، بغض النظر عن مدى صحتها أو السياق الذي أُخذت منه. كما أن التسريبات قد تُستخدم أيضًا كأداة لتشويه السمعة والإطاحة بالخصوم السياسيين، حيث يتم تسريب معلومات تضر بسمعة شخصيات أو مؤسسات بهدف تحقيق مكاسب سياسية.

ويؤكد حازم أن التسريبات لم تعد مجرد وسيلة لكشف الفساد، بل أصبحت في بعض الحالات أداة للتلاعب بالرأي العام واستغلال الأحداث سياسيًا وإعلاميًا.


سرعة الانتشار وصعوبة الاحتواء

يقول الخبير الأمني صفاء الأعسم لـ"الصباح": إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المنصة الأساسية لنشر الوثائق المسربة، حيث يتم تداولها بسرعة هائلة، مما يجعل من الصعب احتواؤها حتى لو تبين لاحقًا أنها مزورة أو غير دقيقة. ويشير الأعسم إلى أن بعض الوثائق المسربة كانت سببًا في كوارث سياسية وأمنية، مثل التأثير على العمليات العسكرية، حيث أدى تسريب معلومات حساسة خلال الحرب ضد عصابات داعش إلى تمكينها من إعادة ترتيب خططها العسكرية، مما أسفر عن خسائر فادحة. كما أن بعض التسريبات السياسية –والحديث للأعسم- أدت إلى إثارة القلاقل، حيث تسبب نشر وثائق تتعلق باتفاقيات سرية أو مفاوضات حكومية في تفاقم الأزمات الداخلية وأحيانًا حتى في انهيار حكومات. ويرى الأعسم أن الحل يكمن في تعزيز التشريعات التي تعاقب على نشر المعلومات الحساسة دون إذن قانوني، والتعاون مع منصات التواصل الاجتماعي للحد من تداول الوثائق المسربة.


كيف يتعامل القانون 

مع تسريب الوثائق؟

من الناحية القانونية، يؤكد الخبير جبار الشويلي لـ"الصباح" أن تسريب الوثائق الرسمية يُعد خرقًا للقوانين التي تنظم العمل الحكومي، وتختلف العقوبات وفقًا لخطورة التسريب، حيث تشمل التوبيخ الإداري أو تخفيض الراتب، إذا كان التسريب غير مقصود أو نتيجة إهمال، كما قد تصل العقوبة إلى الفصل من الوظيفة في حال ثبت أن الموظف قام بالتسريب عمدًا.

وتابع القول "في الحالات الأشد خطورة، قد يواجه المتورطون ملاحقات جنائية، إذا أدى التسريب إلى الإضرار بالأمن القومي أو المصالح العامة للدولة". إلا أن الشويلي يلفت إلى أن تطبيق هذه القوانين يواجه تحديات في العراق، حيث يكثر تسريب الوثائق نتيجة ضعف الرقابة الداخلية وسوء استغلال بعض الموظفين لصلاحياتهم، مما يتطلب تشديد الإجراءات القانونية 

والرقابية".


التسريبات وتأثيرها على الشارع 

في حديثه لـ"الصباح"، يؤكد الباحث السياسي مهند الراوي أن العراق شهد بعد 2003 ارتفاعًا ملحوظًا في تسريب الوثائق الرسمية، خاصة مع غياب القوانين الصارمة التي كانت تحكم تداول الوثائق الحكومية في السابق. ويشير الراوي إلى أن الوثائق الحكومية كانت في الماضي مختومة بالشمع الأحمر ولا يطلع عليها إلا عدد محدود من الأشخاص الموثوق بهم، بينما اليوم أصبحت هذه الوثائق تنتشر بسهولة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، مما جعل السيطرة عليها أمرًا شبه مستحيل. ويرى الراوي أن التسريبات أثرت سلبًا في الشارع العراقي من عدة جوانب، حيث تعقّد المشهد السياسي بعدما أصبحت جزءًا من الصراع السياسي الداخلي، حيث تُستخدم ضد الخصوم خلال الانتخابات والمفاوضات السياسية. كما أنها تسببت في تعطيل التنمية وإرباك عملية صنع القرار، حيث يؤدي نشر بعض الوثائق إلى إثارة الجدل حول مشاريع تنموية أو اتفاقيات اقتصادية، مما يؤثر في تنفيذها. إضافة إلى ذلك، أسهمت في ضعف الثقة بالمؤسسات الحكومية، إذ يفقد المواطنون ثقتهم في قدرة الحكومة على حماية المعلومات الحساسة مع تكرار هذه التسريبات.


بين الشفافية والفوضى الإعلامية

تسريب الوثائق الرسمية أصبح سلاحًا ذا حدين، فمن ناحية، قد يكشف عن الفساد ويحقق مبدأ الشفافية، لكنه في المقابل قد يُستغل لزعزعة الاستقرار السياسي والأمني. ومع التطور التكنولوجي وانتشار المعلومات بسرعة هائلة، تصبح الحاجة ملحّة إلى تعزيز أمن المعلومات داخل المؤسسات الحكومية، وتطبيق قوانين صارمة لمنع التسريبات، مع توعية الإعلام والجمهور بأهمية التعامل المسؤول مع الوثائق المسربة.