الصوم وتقوية الإرادة

منصة 2025/03/04
...

  بسيم عبد الواحد

هنالك بعدان في فلسفة الصوم، بعد ظاهري وبعد باطني، والصيام هو الالتقاء المتزامن بين هذين البعدين، كونه التجلي الواضح لشهادة الجوارح على القلب، فقد تتباين وتختلف المراتب على ذلك التزامن قوة وضعفاً، بكمية وحجم المستوى في تحقيق هذا التوافق، تتمثل بالقيام بالفعل والإحساس العميق به .

هذا النوع من الشعور كان يزامن فعل الصوم من أقدم العصور، فالصوم ليس تكليفاً جديداً، وإنما مارسته الكثير من الديانات السماوية 

والأرضية.

قال الله في محكم كتابه العزيز 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [ البقرة: 183] ، وها هنا نكتتان، الأولى هي الإشارة إلى أن الصوم تكليف جوهري عند الأمم السابقة، يريده الله من عباده بمطلوبية شديدة، والنكتة الأخرى الجزاء على هذا التكليف وآثاره على تربية الإنسان وهو معيار التقوى ومجازات هذا المعيار بجنة أعدت للمتقين. وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الآية فقال: "لذة ما في النداء، أزال تعب العبادة والعناء"، كيف أزيل التعب والعناء؟ وذلك عن طريق التقوى والحرية الكاملة في اختيارها. ونداء هؤلاء المتقين 

بالمؤمنين.

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار، خوفا ًمن العقاب ورغبة في الثواب والأجر، وصوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم وخلو القلب عن جميع أسباب الشر"، فإذن الصوم يحث الإنسان على سمو الأخلاق وتقوية الإرادة في متطلبات النفس ومراقبتها في الفرد والجماعة معاً والصبر على ملذات الدنيا من أطعمة ونكاح، ونستطيع أن نقول إن الإنسان في ضيافة الله ومدرسته الأخلاقية يدرس فيها دورة مكثفة لهذه القيم مجتمعة وضخها في وجدان وضمير الفرد 

والأمة.

هذا ما يخص الجانب الظاهري وهو الامتناع عن الأكل والشرب والنكاح أما الجانب الباطني، ففي رواية أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله حين سمع امرأة صائمة تسب جارية لها، دعاها لتناول لطعام، فامتنعت، قائلة أنا صائمة يا رسول الله، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جارتك؟، هذا يعني أن الصوم ليس من الطعام والشراب  فقط، وإنما جعل هذه الأمور الظاهرية طريقاً للامتناع عما هو أعمق من ذلك وهو الامتناع الوجداني عن كل ما يغضب الله، بحيث تظهر الآثار المعنوية للإنسان في تعامله مع أخيه في الآدمية وهذا هو الهدف الجوهري من هذه 

العبادة. 

وجاء عن فاطمة عليها السلام قولها "ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"، نعم صدقت سيدتي ومولاتي فاطمة. فربما لا يحصل الصائم من صومه على غير الجوع والعطش والحرمان، وإذا لم يؤثر هذا الصوم في ردع الإنسان عن الكذب والغيبة والبهتان وغيرها نطقاً وسمعاً وبصراً وجوارح، فلن يرى أي حقيقة لنور الإيمان في باطنه وحركته داخل المجتمع.