جواد علي كسار
على حين غرّة ضجّت المدينة بحركة استثنائية بدأت بتجمّعات كثيفة في مسجد النبي. حملت الجموع سرير (تابوت) يضمّ جثمان رجل تشير الدلائل كلها على أهميته الخاصة، فقد صلى عليه النبي وأشرف على غسله وتحنيطه وتكفينه. وها هو ذا رسول الله يتقدّم الجموع بلا رداء ولا حذاء، تُجلل مُحياه آثار حزنٍ عميق على المتوفى، يأخذ تارةً بالجهة اليمنى من مقدّمة التابوت وأخرى بجهة اليسار.
عندما وصل الموكب بصعوبة إلى مقبرة بقيع الفرقد، أبى رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أن يشرف بنفسه على حفر القبر وإعداد اللحد، ثمّ نزل صلى الله عليه وآله بنفسه يسوي اللحد بيديه الكريمتين، وقد وضع الجسد فيه بعد أن أُنزل في حفرته. بعد أن وضع المتوفى في لحده، جعل النبي يقول لمن حوله من الأصحاب: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً يسدّ به ما بين اللبن (الأحجار) حتى انتهى من العمل كله.
يا لحظّ هذا الراحل وما أعظم توفيقه ورسول الله يحمل جثمانه ويلحده بيديه! أخذ هذا المشهد بمجامع قلوب الحاضرين، ومنهم والدة المتوفى إذ لم تصبر من شدّة فرحها بهذا المآل الكريم لولدها، حتى صاحت بمسمع النبي: يا سعدُ، هنيئاً لك الجنّة.
إنه إذن سعد بن معاذ زعيم الأوس بل الأنصار جميعاً، أُستشهد بريعان الشباب وهو في السابعة والثلاثين من عمره، بعملية اغتيال يوم الخندق عندما أصاب يده سهم قريشي غادر، أقعده جريحاً شهراً كاملاً يداوى من إصابته، أمر فيه رسول الله أن تُضرب لسعدٍ خيمة قريبةً منه في مسجده، حتى يشرف على طبابته من قرب ويعوده يومياً.
لسعدٍ مواقف في حركة الدعوة أعطته قرباً إلى قلب النبي؛ بدءاً من إسلامه على يد مبعوث النبي مصعب بن عمير، ودوره في إدخال قومه جميعاً إلى الدين الجديد. ثمّ موقفه وقومه وبذلهم أموالهم وبيوتهم لإخوانهم الذين هاجروا إليهم، ومحبته الخالصة لرسول الله، وموقفه الكريم يوم بدر، عندما خاطب النبي بقوله: "والذي بعثك بالحقّ نبياً، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد". وهو من القلة التي ثبتت يوم أُحد، ومن القلوب الشجاعة يوم الخندق، وهو صاحب الحكم الشهير على يهود بني قريظة بعد نقضهم عهدهم مع المسلمين، وقد قال النبي عن حكمه: "لقد حكمت فيهم بحكم الله".
أحاديث مديح النبي لسعدٍ وثنائهِ عليه كثيرة، منها: يرحمك الله يا سعدُ فلقد كنت شجى في حلوق الكافرين! وعندما سُئل النبي عمّا فعله من اهتمام بالغ في جنازة سعد، ذكر أنه شهد الملائكة تحفّ بجثمان سعد وتأخذ بسريره (تابوته) وفي بعضها أن سبعين ألفاً من الملائكة شاركت بتشييعه.
إن في قصة هذا الصحابي الجليل مآثر عظيمة، رغم قصر سنّي عمره، تغصّ بالدروس والعبر، وتبقى راسخة تتحدّى الأزمان. لكن ما يعنينا منها هو سرّ المكانة التي حظي بها سعدُ بن معاذ، إذ تُجمع الروايات أن ذلك التوفيق يعود إلى علاقة خاصة لسعدٍ بسورة التوحيد. منها ما عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال بعد أن صلى على سعدٍ: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه سبعون ألف ملك وفيهم جبرئيل، يصلون عليه. فسأل النبي: يا جبرئيل، بمَ استحقّ صلاتكم عليه؟ أجاب جبرئيل: بقراءة قل هو الله أحد، قائماً وقاعداً، وراكباً وماشياً، وذاهباً وجائياً ! .