هروب الفتيات من جحيم الأسرة.. رحلة نحو المجهول

ريبورتاج 2025/03/06
...

 

 بغداد : مآب عامر

في بغداد، وتحديدا في مرأب العلاوي، انتهت رحلة فتاة كانت قد هربت من جحيم أسرتها. في لحظة فارقة، وصلت الفتاة البالغة من العمر 14 عاما إلى المكان، فاستشعر المسؤولون هناك بأنها كانت تسعى للهروب من شيء أكبر من مجرد المسافة الجغرافية. فماذا كان وراء هذا الهروب؟ الإجابة كانت مؤلمة..

استجابت الشرطة المجتمعية بسرعة، حيث تم إرسال قوة أمنية قريبة لاستلام الفتاة وإيصالها إلى المقر المختص. وفقًا لمصادر رسمية، كان السبب وراء هروب الفتاة هو التعنيف الجسدي المتكرر من قبل أفراد أسرتها، ما دفعها للهرب بحثًا عن حياة خالية من العنف. في إجراء قانوني، تم استدعاء أسرة الفتاة من قبل الدائرة المعنية، التي تعهدت بعدم التعرض لها مرة أخرى، وذلك كشرط لحمايتها من أي اعتداءات مستقبلية.

وفي حادثة مشابهة، نجحت الشعبة النسوية في قسم الشرطة المجتمعية بدائرة العلاقات والإعلام بوزارة الداخلية في إعادة فتاة هاربة إلى أسرتها، بعد أن تعهد أفرادها قانونياً بعدم تعنيفها مجددًا. وأظهرت التحقيقات أنها تعرضت لإيذاء نفسي وجسدي مستمر.

في قضية أخرى، تناولتها الشرطة المجتمعية في بيان رسمي، أسهمت الدائرة في إعادة فتاة في الحادية عشرة من عمرها إلى أسرتها، بعدما كانت تخطط للهرب برفقة ابنة عمها.

وفقًا لإحصائية مجلس القضاء الأعلى لعام 2024، تم تسجيل نحو (17780) دعوى متعلقة بالعنف الأسري أمام محاكم البلاد. وقد تصدرت محكمة استئناف الكرخ قائمة المحاكم التي تم فيها حسم أكبر عدد من هذه الدعاوى، حيث بلغ عددها (3764) دعوى، تلتها محكمة استئناف بابل بـ (3104) دعوى، ثم محكمة استئناف القادسية بـ (2440) دعوى.

في الوقت الذي تبذل فيه وزارة الداخلية جهداً ملحوظاً لتوجيه الأسر نحو التعامل بحسن مع الفتيات اللواتي تمت إعادتهن بعد هروبهن، يعرب الناشط الحقوقي محمد حسن السلامي عن قلقه حيال الأسباب التي تدفع الفتيات إلى اتخاذ قرار الهروب. يشير السلامي في حديثه لـ"الصباح"إلى أن هذه الظاهرة تتفاقم بشكل خاص بين الفتيات اللاتي لا ينشغلن بالدراسة والتعليم، وهو ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوعي الثقافي والتعليمي داخل الأسرة وداخل المجتمع بشكل عام.

ويرى السلامي أن وسائل التواصل الاجتماعي قد لعبت دوراً مهماً في تصعيد هذه الظاهرة، حيث تعرض للشباب، والفتيات على وجه الخصوص، نماذج حياة اجتماعية مغرية من دول تتمتع برفاهية، ما يزيد من شعورهن بعدم الرضا عن وضعهن المحلي. كما يعتقد أن هذه العوامل تخلق حالة من التناقض بين الطموحات غير المحققة والرغبة في حياة مختلفة، ما قد يدفعهن إلى الهروب. إضافة إلى ذلك، يلفت السلامي الانتباه إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها أغلب الأسر ذات الدخل المحدود. فهذا الوضع يسهم في شعور الفتيات بالإحباط، حيث لا يمكنهن تلبية احتياجاتهن ورغباتهن الخاصة في ظل الحياة المعيشية القاسية. وأشار إلى أن شعور الفتاة بالعجز عن تحسين وضعها يعزز من رغبتها في الهروب بحثاً عن حياة أفضل.

وعلى الصعيد الأمني، يوضح السلامي أن الوضع الأمني غير المستقر يزيد من حدة الأزمة. في كثير من الأحيان، تشعر الفتيات بضغط اجتماعي وقلق بشأن سلامتهن، ما يدفعهن إلى البقاء في بيئات خانقة وغير صحية. إضافة إلى ذلك، يشير إلى غياب الأماكن التي يمكن أن توفر للشباب والفتيات فرصاً لتطوير مهاراتهم واهتماماتهم في مجالات الرياضة والفنون والثقافة، وهو ما يفاقم حالة الإحباط والملل.

للتصدي لهذه الظاهرة، يقترح السلامي حلولاً عملية عدة، مثل تقديم دعم مالي للأسر بشرط التزام الأبناء بالتعليم، وتعزيز قوانين التعليم الإلزامي المجاني. كما يدعو إلى القضاء على مظاهر العنف في وسائل الإعلام، وإنشاء مراكز للشباب تديرها فرق مختصة في علم النفس والاجتماع، توفر لهم فرص تطوير مهاراتهم وتحقيق طموحاتهم.

وترى الدكتورة حنان جمعة، المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في كلية التربية الأساسية قسم الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي، أن التغيرات الاجتماعية العميقة التي تمر بها المجتمعات تؤثر بشكل وثيق في قيم الشباب وتصوراتهم بشأن العلاقات الأسرية والاجتماعية. وتؤكد أن الهوية التي تشكلها الفتاة في هذا السياق يجب أن تُحتوى بشكل إيجابي من قبل الآباء أو أولياء الأمور، وإذا لم يتم ذلك، فقد تنحرف هذه الهوية إلى مسارات غير مقبولة وتكون بعيدة عن التوقعات الاجتماعية.

وتتابع جمعة بأن الميكانزيمات النفسية والدفاعات التي تؤدي إلى سلوك الهروب عند الفتيات تتأثر بشكل كبير بتحولات المجتمع، إذ قد تواجه الفتاة صعوبات في التواصل داخل الأسرة، ما يعيق قدرتها على أداء أدوارها بشكل سليم، بالإضافة إلى وجود عنف مباشر من الأب أو الإخوة، ما يخلق أزمات نفسية قاسية. هذا الشعور بالعزلة والقطيعة مع القيم الاجتماعية يعزز من رغبتها في البحث عن هوية اجتماعية خارج بيئتها الأسرية.

وفي ما يتعلق بمفهوم التصور الذاتي، توضح جمعة أن الفتاة قد تجد صعوبة في تكوين تصور سليم عن نفسها في إطار الثقافة السائدة. وعندما تفشل في ذلك، قد تسعى إلى الهروب والبحث عن ثقافة جديدة تعطيها معنى لوجودها، وهو ما يفضي في النهاية إلى نشاطات منحرفة أو غير سليمة.

وتستعرض جمعة الحلول الممكنة لهذه الظاهرة في ضرورة تقوية الروابط الأسرية من خلال تعزيز الرعاية والتقرب المعنوي بين أفراد الأسرة، وتقليل الخلافات أو التمييز بين الأبناء. إضافة إلى ذلك، فإن إشراك الأبناء في صنع الأهداف وتنظيم بيئة أسرية صحية يعزز من الحصانة النفسية ويقلل من السلوكيات السلبية. كما تؤكد أهمية تعزيز القرب العاطفي والوجداني في الأسرة وتوفير بيئة مناسبة تسهم في نمو هوية الفتاة بشكل سليم.

في المجتمع العراقي المحافظ، يُعد هروب الفتاة من بيت أسرتها أمرًا صعبًا للغاية من الناحية الاجتماعية، حيث يُنظر إليه بعين السلبية ويدور حوله الكثير من الجدل والوصم الاجتماعي. نتيجة لذلك، تسعى العديد من الأسر إلى إخفاء هذه الحقيقة خوفًا من تلقي اللوم الاجتماعي أو العار. وفي حال اكتشاف هروب الفتاة، غالبًا ما تلجأ هذه الأسر إلى تبرير الحادثة بادعاء أنها كانت حالة اختطاف، محاولين تجنب تحمّل المسؤولية الاجتماعية عن هذا الفعل.

ورغم هذه المحاولات لإخفاء الحقيقة، تؤكد وزارة الداخلية العراقية في بياناتها الرسمية أن الحالات التي تم تسجيلها بعد عام 2015 تشمل جميعها حالات هروب واختفاء للفتيات القاصرات، وليس حالات اختطاف. هذه التصريحات تشير إلى أن الهروب لا يكون دائمًا نتيجة لأسباب خارجية أو قسرية، بل قد يكون رد فعل للفتاة على الظروف التي تعيش فيها داخل أسرتها، سواء كانت تتعلق بالعنف أو القمع الاجتماعي أو الإحساس بعدم وجود أفق للمستقبل.

يُعزى هروب الفتيات من منازل أسرهن إلى عوامل عدة حسبما يوضح العميد نبراس محمد علي، مدير قسم محاربة الشائعات في وزارة الداخلية. وأحد أبرز هذه العوامل هو التفكك الأسري الذي يعودإلى نقص في الفهم الصحيح للحداثة في تربية الأبناء، وخاصة الفتيات. ويشير العميد في معرض حديثه لـ"الصباح"، إلى أن الفتاة في الماضي كانت تجد راحتها وملاذها في حديثها مع والدتها، أما في الوقت الحالي، فقد أصبحت تلجأ إلى منصات التواصل الاجتماعي، ما زاد من الفجوة بينها وبين أسرتها.

كما يسلط العميد محمد، الضوء على تأثير الانشغال المستمر لأهل الفتيات بأعمالهم ومسؤولياتهم الشخصية، وكذلك الإدمان على العالم السيبراني، ما يؤدي إلى زيادة العزلة النفسية للفتيات. وعندما تواجه الفتاة مشكلة في حياتها، تجد نفسها غالباً تلجأ إلى أصدقائها الافتراضيين على الإنترنت بدلاً من التوجه إلى أفراد أسرتها، ما يسهم في إبعادها عن الأسرة ويدفعها أحيانًا إلى اتخاذ قرار الهروب.

من جانب آخر، يعزو العميد محمد، المشكلة إلى ما وصفه بـ "عصر التفاهة" الذي يهيمن على منصات التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الشباب والفتيات يقلدون "الترندات" ويعدونها قدوة لهم. وهذه الترندات، التي قد تكون مزيفة وغير واقعية، تدفعهم للبحث عن حياة مثالية بعيدًا عن الواقع الاجتماعي والأسري، ما يزيد من خطر اتخاذ قرارات قد تكون غير ناضجة في محيط أسري وثقافي محافظ.

وفي إطار معالجة هذه المشكلة، يوضح العميد نبراس محمد أن وزارة الداخلية، من خلال دائرة العلاقات والإعلام، تعمل على تكثيف التوعية في المدارس والمعاهد والجامعات بشأن آثار الهروب من المنزل، مع توعية الفتيات بمخاطر هذا القرار، وكيفية التعامل مع المشكلات الأسرية بشكل إيجابي. كما تعمل الشرطة المجتمعية على إيواء الفتيات الهاربات وإعادتهن إلى أسرهن، مع اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لضمان سلامتهن النفسية والاجتماعية.