لا تخونوا الله والرسول

منصة 2025/03/07
...

جواد علي كسار
حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله يهود بني قريظة، إحدى وعشرين ليلة، فسألوا النبي على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير، فأبى أن يعطيهم ذلك. عندها قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، وكان مناصحاً لهم؛ لأن عياله وولده وماله كانت عندهم. فاستجاب لهم النبي، وقال: يا أبا لبابة، إئتِ حلفاءك ومواليك.

لما أصبح أبو لبابة معهم في حصنهم، سألوه: ما ترى يا أبا لبابة أننزل على حكم محمد؟ فنهاهم أبو لبابة عن ذلك وأشار بيده إلى حلقه (يقصد أنه الذبح) وقال لهم: فلا تفعلوا.

ما إن نطق بذلك حتى عاد إلى نفسه وانتبه وندم، وقال: خنتُ الله ورسوله! وفي رواية أخرى، قوله: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفتُ أني قد خنتُ الله ورسوله. فماذا تراه فعل لكي يتدارك ما بدر منه؟.

عندما نزل من حصنهم لم يرجع إلى رسول الله، بل ذهب من فوره إلى المسجد النبوي، وشدّ في عنقه حبلاً، ثمّ شدّه إلى الاسطوانة، وقال: لا أحله حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فلما بلغ رسول الله ذلك، قال: أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به.

انقطع أبو لبابة عن الطعام والشراب أو كاد، إذ راح يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به رمقه، فكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحله عند قضاء الحاجة. لما كان النبي في يوم من الأيام في بيت أمّ سلمة، نزلت توبته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 27) فقالت أمّ سلمة للنبي: يا رسول الله، أفأُذنه بذلك؟ فقال لها: لتفعلن، فأخرجت رأسها من الحجرة، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر لقد تاب الله عليك، فقال: الحمد لله.

عندما انتشر الخبر بين المسلمين، وثبوا ليحلّوه، قال: لا والله حتى يحلّني رسول الله! فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال له: يا أبا لبابة، قد تاب الله عليك توبةً لو وُلدت من أمك يومك هذا لكفاك.

لقد كانت فتنة المال والعيال هي من وراء سقطة أبي لبابة هذه، لذلك التفت إلى النبي قائلاً: يا رسول الله، أفأتصدّق بمالي كله؟ أجابه النبي: لا، قال: فبثلثيه؟ ردّ النبي: لا، قال: فبنصفه؟ أجاب النبي: لا، قال أبو لبابة: فبثلثه: أجابه النبي: نعم، فأنزل الله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 102ـ 103).

منذ وقت أبي لبابة ذاك وموقفه التائب، وقد تحوّلت الأسطوانة إلى ما زال يُعرف حتى اليوم بـ«أسطوانة التوبة» وقد أفتى الفقهاء لمن دخل المدينة وله إلى الله حاجة، أن يصوم ثلاثة أيام هي الأربعاء والخميس والجمعة، وأن يأتي تلك الأسطوانة يقعد عندها، إحياءً لذلك الموقف، وطمعاً بالتوبة الإلهية وقضاء الحاجة.