صيام الأديان.. ممارسة روحيَّة موحدة باختلاف الطقوس

سعاد البياتي
يعد الصيام في العديد من الديانات حول العالم أكثر من مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، فهو يشمل طقوسا وعادات تختلف من دين إلى آخر، ولكل منها أهداف روحية واجتماعية خاصة بها. فالصوم في بعض الديانات يمثل وسيلة للتقرب إلى الله، بينما في ديانات أخرى يُعد فرصة لتطهير النفس والروح من الشوائب. تتنوع أشكال الصيام بين الامتناع الكامل عن الطعام والشراب، أو الامتناع عن بعض المواد والملذات الجسدية، وقد ترافقه شعائر دينية ورموز تعكس معاني عميقة.
في هذا الصدد، حدثنا المنسق الثقافي في العتبة الحسينية المقدسة، جمال الدين الشهرستاني، قائلاً: "من خلال اطلاعي على العديد من اللقاءات والمقابلات التي أجريتها مع رجال دين من أديان مختلفة في الجمهورية الإسلامية في إيران والهند وبعض دول شرق آسيا ولبنان وتونس ومصر والبرازيل ودول أخرى، تبين لي أن جميع الأديان لها أيام صوم، ولكن هذه القاعدة ليست متفق عليها بين الأديان، بل حتى بين الفرقاء من الدين الواحد. على سبيل المثال، في الديانة المسيحية، هناك أيام صوم متفرقة على مدار العام، وتختلف طريقة الصوم بين الطوائف. الاختلاف لا يكمن فقط في الأيام، بل في طريقة الصوم أيضًا والممنوعات والمسموح به أثناء الصوم، فضلاً عن عدد الساعات وتوقيتها. فهناك من يصوم ثلاثة أيام عن اللحوم فقط، ومنهم من يبيح السمك ومنهم من يحرمه. كما أن هناك صومًا يشمل الامتناع عن الكلام والأفعال الدنيوية. إضافة إلى ذلك، يوجد صوم أربعين يومًا قبل يوم الآلام، وتختلف الكنيسة الكاثوليكية عن الكنيسة الشرقية في القواعد والطريقة، كما تختلف عن البروتستانتية التي تتسم بمزيد من التسامح في هذا الجانب."
كما أوضح الشهرستاني في ما يخص الديانة اليهودية قائلاً: "الديانة اليهودية لها أيام صوم متفق على توقيتها، وهي ستة أيام في العام متفرقة وليست متواصلة. وطريقة صومهم تستمر لمدة 24 ساعة من الغروب إلى الغروب، حيث يمتنعون عن الطعام والعمل، مع تحديد أنواع الطعام المسموح بها والمحظورة. وأهم يومين للصوم لدى اليهود هما يوم الغفران ويوم تدمير الهيكل".
ممارسة روحانيَّة
يُعد الصوم من أقدم العبادات التي مارستها البشرية، إذ كان ولا يزال يمثل وسيلة للتقرب إلى الله، والتطهر الروحي، وضبط النفس وتزكيتها. ومن خلال هذا الفعل التعبدي، يلتزم الفرد بالامتناع عن الطعام أو بعض الملذات الحسية كوسيلة لتهذيب النفس وتقوية الإيمان. وفي هذا الصدد، يؤكد مدير أكاديمية الوارث للتنمية المستدامة والدراسات الاستراتيجية، عقيل الشريفي، قائلاً: "على الرغم من الاختلافات بين الأديان في كيفية أداء الصيام وأحكامه، إلا أن هناك قواسم مشتركة تجمع بين الأديان السماوية والوضعية، تجعل من هذه العبادة ممارسة روحانية وإنسانية عميقة الجذور."
الصيام في الإسلام
أما عن الصيام في الإسلام، فيُعد عبادة رئيسية فرضها الله على المسلمين في شهر رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. وقال الشريفي في هذا السياق: "يُظهر القرآن الكريم في قوله تعالى: 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ' (البقرة: 183) أن هذه العبادة كانت مفروضة على الأمم السابقة، وهو ما يشير إلى استمرارية هذه العبادة بين الأديان". في الصيام الإسلامي، يمتنع المسلمون عن الطعام والشراب والجماع وكل ما يفطر من الفجر حتى غروب الشمس. وقال الشريفي: "هذا الصوم يُعد طاعة لله وتطبيقًا عمليًا لإظهار التوبة والتقوى، ويهدف إلى تحقيق التقوى بالإضافة إلى تنمية الإرادة وتقوية الشعور بالآخرين، خاصة الفقراء والمحتاجين". وأضاف أنه بالإضافة إلى صيام رمضان، هناك صيامات مستحبة مثل صيام يومي الاثنين والخميس وصيام يوم عرفة.
الصيام في المسيحيَّة
في ما يخص الصيام في المسيحية، أوضح الشريفي قائلاً: "يُعد الصيام في المسيحية وسيلة للتوبة والتقرب إلى الله، وله مكانة كبيرة في العقيدة المسيحية، وخاصة في طوائف الأرثوذكس والكاثوليك". وأضاف: "أشهر أنواع الصيام المسيحي هو الصوم الكبير الذي يستمر 40 يومًا استعدادًا لعيد القيامة، حيث يمتنع المسيحيون عن تناول بعض الأطعمة مثل اللحوم ومنتجات الألبان، ويركزون على الصلاة والتأمل الروحي." وتابع: "تختلف الطوائف المسيحية في قواعد الصيام، حيث تكون الكنيسة الأرثوذكسية أكثر تشددًا مقارنة بالكاثوليكية والبروتستانتية التي تتميز بمزيد من التسامح في هذا المجال."
الصيام في اليهوديَّة
أما عن الصيام في اليهودية، فقال الشريفي: "يُعد الصوم في الديانة اليهودية وسيلة دينية للتوبة والتكفير عن الذنوب، وأهم يومين للصوم هما يوم الغفران (كيبور) الذي يمتنع فيه اليهود عن الطعام والشراب والعمل لمدة 25 ساعة، ويوم غزوة نبوخذنصر لأورشليم". وأضاف: "يمارس اليهود أيضًا صيامًا في التاسع من آب (تيشا باف) لإحياء ذكرى تدمير الهيكل في القدس". وتابع: "الصوم في اليهودية يمثل عبادة مهمة للتطهر الروحي والتكفير عن الذنوب."
الأديان الوضعيَّة
تحدث الشريفي عن الصيام في الأديان الوضعية قائلاً: "في الهندوسية، يُعرف الصيام باسم 'أوباتا' وهو يختلف في أشكاله وقواعده. بعض الهندوس يصومون عن جميع أنواع الطعام، بينما يختار آخرون تناول أطعمة معينة مثل الفواكه والمكسرات أو الحليب فقط". وأضاف: "يرتبط هذا الصوم بأيام مقدسة مثل 'إيكاداشي' التي تحدث مرتين شهريًا، ويُعد وقتًا للتأمل والتطهر من الذنوب". وأوضح الشريفي كذلك: "في البوذية، يُعد الصيام وسيلة لضبط النفس والتأمل العميق، حيث يمتنع الرهبان عن الطعام بعد منتصف النهار حتى فجر اليوم التالي. وهذا يساعدهم على تعزيز الانضباط الداخلي والتركيز على التعاليم الروحية."
الصيام في الزرادشتيَّة
أما في الديانة الزرادشتية، فقال الشريفي: "على الرغم من أن الزرادشتية لا تفرض الصيام بشكل صارم، إلا أن بعض أتباعها يمارسون الصيام عن اللحوم أو الأطعمة الدهنية في المناسبات الدينية. وهذا يُعد وسيلة للتطهر الروحي وتحقيق التوازن الداخلي". وأضاف: "الصيام في الزرادشتية يُعد ممارسة تأملية تهدف إلى الحفاظ على صحة الجسد والعقل."
الديانات الأفريقيَّة
وعن الصيام في الديانات الأفريقية التقليدية، ذكر الشريفي: "في بعض الثقافات الأفريقية، يُعد الصيام جزءًا من الطقوس الدينية والروحية. ويرتبط الصيام بمواسم الحصاد أو الاحتفالات التي تكرم الأرواح والأسلاف". وأوضح قائلاً: "في بعض الأحيان، يُطلب من القادة الروحيين الامتناع عن الطعام والماء لفترات محددة لطلب البركة أو الاسترشاد من القوى الروحية."
القيم المشتركة للصوم
ختامًا، أكد الشريفي قائلاً: "على الرغم من اختلاف طرق ممارسة الصيام بين الأديان السماوية والأديان الوضعية، إلا أن هناك قيمًا مشتركة توحد هذه العبادة. فالصيام يُعد وسيلة للتقرب إلى الله أو إلى الهدف الروحي الأسمى كما يراه كل دين." وأضاف: "الصيام يعزز أيضًا من الإرادة البشرية ويُحفز الأفراد على تعزيز الشعور بالآخرين، وخاصة الفقراء والمحتاجين. ويُعد تجربة روحانية تتجاوز الحدود الدينية لتصبح ممارسة إنسانية تعكس القيم المشتركة بين مختلف الشعوب والثقافات."