جواد علي كسار
هذا رجل تُبهر عقله كثرة ما يُكتب عن القرآن علوماً وتفسيراً، وتأخذه سعة المعارف التي تفيض بها عقول المسلمين من آثار هذا الكتاب، ومع ذلك فهو معطاء أبداً لا تنفد خزائنه، فيتجه إلى الإمام الصادق سائلاً مستفهماً: ما بالُ القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فيجيبه الإمام موضحاً: "لأنّ الله تبارك وتعإلى لم يجعله لزمانٍ دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كلّ زمانٍ جديد، وعند كلّ قومٍ غضّ إلى يوم القيامة" .
في المعنى نفسه عن الإمام الرضا: "لا يُخلق من الأزمنة، ولا يغثّ على الألسنة، لأنه لم يُجعل لزمانٍ دون زمان".
عن أفق العطاء القرآني على مرور العصور والأزمان، ومع تداعي الأمم والثقافات؛ يُعيد النبي بعض ذلك إلى خصائص القرآن نفسه: "هو كتاب تفصيل، وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل. وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة، وباطنه علم... لا تُحصى عجائبه، ولا تُبلى غرائبه".
من روائع وصوفات النبي لعطايا كتاب الله في كلّ وقت ولكلّ قوم، تشبيهه بالمأدبة المعرفية الربانية المفتوحة التي لا تنفد: «القرآن مأدبة الله، فتعلموا مأدبته ما استطعتم» إذ يُشير لفظ «تعلموا» إلى الطابع المعرفي لهذه المأدبة الإلهية. كما يعزّز ذلك أيضاً، ما عن الإمام علي بن الحسين السجاد بتوصيف آيات القرآن؛ بالخزائن: "آياتُ القرآن خزائن، فكلما فتحت خزانه ينبغي لك أن تنظر ما فيها".
أوليات التعامل مع النص القرآني تبدأ بالقراءة أو التلاوة، لكنها لا تقف عندها، بل هناك حثّ على التعلّم، كما في قول النبي وأهل بيته مراراً: «تعلموا القرآن». ثمّ الدرس من وراء التعلّم أو في مساره: «فادرسوا القرآن»، ومن بعد ذلك استنطاقه بحسب النص المشهور للإمام أمير المؤمنين: "ذلك القرآن فاستنطقوه» تأسيساً على مبدأ الوحدة العضوية لهذا الكتاب، وأنه: "ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض".
معرفة بهذه المثابة هي السبيل إلى هدي القرآن وعطاياه في كلّ شيء: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89). ففي الحديث الشريف في ظلال هذه الآية عن الإمام الباقر: "إن الله تبارك وتعإلى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى الله عليه وآله". كذلك عن الإمام الصادق: "إن الله تبارك وتعإلى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتى والله ما ترك شيئاً تحتاج إليه العباد".
تبقى مسالة هي وإن كانت بمنزلة الشبهة المكرّرة من العصور الماضية وإلى اليوم، لكن المهمّ أن نلبث معها لحظات. إذ كثيراً ما يحتجّ بعضهم عن معارف في الرياضيات والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا، ويسأل: أين نعثر عليها وأمثالها في كتاب الله؟ الجواب بشقين؛ الأول المقصود بالشيء في قوله سبحانه ﴿تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ هي الأشياء الطبيعية من عوالم الإنسان والحيوان والجمادات أو الطبيعة، وليس الأشياء الصناعية الموكولة إلى العقل الإنساني وتجربته في الحياة ورقيّه العلمي.
الشقّ الآخر؛ إن المقصود بكلّ شيء هو ما يرتبط بالدائرة الوظيفية للقرآن وهي الهداية؛ فما من شيء له صلة بالوجود وهداية الإنسان إلا وله أصل في كتاب الله.