بغداد: سرور العلي
تصوير: أحمد جبارة
في مدينةٍ تختنق بأنفاسها بين زحام المباني وأبخرة العوادم، ينبض حلمٌ أخضر يحمل وعودا بمستقبل أكثر نقاء. مشروع "غابات بغداد المستدامة" ليس مجرد بضع أشجار تزرع، بل هو رهان كبير على استعادة التوازن البيئي المفقود في عاصمة تآكلت مساحاتها الخضراء.
في جولةٍ ميدانية لفريق "الصباح"، وسط ترابٍ يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى أرضٍ واعدة بالحياة، التقينا بسكان محليين يرون في هذا المشروع بصيص أمل، وفرصةً لإعادة تعريف علاقتهم بمدينتهم. لكن السؤال الأهم يظل معلقًا: هل تستطيع هذه الغابات الصمود أمام تحديات التلوث؟
حسام عبد الله، أحد سكان حي الزعفرانية، يؤمن بأن المشروع سيكون "متنفسًا طبيعيًا لسكان المنطقة، وخطوة تواكب التطورات العصرية"، ما يمنح بغداد لمسةً بيئية تفتقدها منذ سنوات.
أما أم فاضل، فتعكس أمنيات الكثيرين حين تقول: "نأمل أن يحقق المشروع بيئة نظيفة، ويسهم في خلق التوازن، ويحد من درجات الحرارة المرتفعة خلال الصيف"، حيث تتطلع إلى مستقبلٍ يكون فيه الهواء أقل اختناقًا والمساحات الخضراء أكثر حضورًا.
في حين يرى الحاج إسماعيل حسين أن المشروع ليس مجرد زراعة أشجار، بل هو "خطوة فعالة لتحسين جودة الهواء والصحة العامة، وتقليل التلوث الناتج عن تراكم النفايات والأنقاض في المنطقة"، وهو مشكلة طالما أرّقت سكان العاصمة.
مع اتساع رقعة بغداد بشكل متسارع، يبدو أن المدينة تفقد توازنها البيئي وسط تمدد الكتل الإسمنتية، إذ تشير إحصائيات وزارة التخطيط إلى أن 60% من مساحات المدن العراقية أصبحت مغطاة بالكونكريت والإسفلت، ما يزيد من معاناة السكان مع التلوث وارتفاع درجات الحرارة.
الخبير البيئي أنس الطائي يحذر من العواقب المناخية لهذا التمدد العمراني، مشيرًا إلى أن وجود نحو 3 ملايين سيارة في بغداد يعزز من تأثير الاحتباس الحراري، ويجعل الحرارة داخل المنازل تتجاوز الـ 70 درجة مئوية في ذروة الصيف بسبب امتصاص الإسفلت والكونكريت للحرارة. ويؤكد الطائي في حديثه لـ "الصباح" أن الحل يكمن في زيادة المساحات الخضراء، ليس فقط في بغداد، بل في جميع المدن التي باتت تختنق بعوادم السيارات والغبار.
وشدد الطائي على ضرورة أن تشغل المساحات الخضراء 70 % من المدن، أو على الأقل استغلال الأرصفة والجزر الوسطية بزراعات تسهم في تنقية الهواء وتحسين المناخ. ويضيف أن هذا لا يقتصر فقط على الجانب البيئي، بل يمتد ليؤثر بشكل مباشر في الحالة النفسية للسكان، حيث يؤكد العديد من الدراسات العالمية والمحلية أن وجود مساحات خضراء في المدن يسهم في تقليل التوتر وتحسين جودة الحياة.
ويرى الطائي أن مشروع "غابات بغداد المستدامة" قد يكون مفتاحًا لحل هذه الأزمة، حيث سيسهم في خفض درجات الحرارة، وتقليل استهلاك الطاقة الكهربائية، وتحويل بغداد إلى مدينة أكثر استدامة، بدلًا من تحولها إلى مجرد "لوحة كونكريتية صمّاء" تفقد هويتها البيئية.
وفقًا لقانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، الذي شرعه مجلس النواب، فإن الدولة ملزمة بحماية البيئة، ومعالجة الضرر الحاصل فيها، مع الحفاظ على الصحة العامة والموارد الطبيعية، وهو ما يتماشى مع أهداف المشروع في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز التعاون البيئي على المستويين المحلي والدولي.
مدير بلدية الكرادة، المهندس جاسم محمد الركابي، وصف مشروع "غابات بغداد المستدامة" بأنه الأكبر من نوعه في العراق والشرق الأوسط، حيث سيتم تحويل أرض معسكر الرشيد السابق إلى مساحة خضراء واسعة تضم أنشطة متنوعة تلبي احتياجات المواطنين، ما يجعلها نقطة جذب مهمة لسكان بغداد وجميع المحافظات.
وفي حديثه لـ"الصباح"، أوضح الركابي أن المشروع لن يقتصر على التشجير، بل سيشمل أنشطة ترفيهية وتعليمية للشباب والأطفال، تهدف إلى تنمية مهاراتهم العلمية والثقافية، إضافةً إلى محميات بيئية تحافظ على التنوع الأحيائي، وأشجار نادرة تسهم في تحسين جودة الهواء.
من الناحية الاقتصادية، يرى الركابي أن المشروع سيوفر مصدر دخل وعائدات لأمانة بغداد، إلى جانب دوره في التخلص من كميات النفايات الضخمة التي تراكمت في الموقع منذ 22 عامًا بعد سقوط النظام السابق.
من جانبه، كشف عدي الجنديل، المتحدث باسم أمانة بغداد، عن تفاصيل مشروع "غابات بغداد المستدامة"، الذي يُعَدُّ أحد أكبر المشاريع البيئية في العراق، ويمتد على مساحة 5000 دونم في موقع معسكر الرشيد السابق. وأوضح لـ"الصباح" أن المشروع يعتمد بالكامل على الطاقة النظيفة، ويهدف إلى تحسين البيئة الحضرية للعاصمة.
كما يتضمن المشروع زراعة مليون شجرة معمرة، إلى جانب بحيرات وممرات مائية وحدائق متعددة، تشمل مساحات مخصصة للأطفال والنساء وطلبة المدارس، إضافة إلى حدائق علمية لتعزيز الوعي البيئي، إضافة إلى ذلك، سيضم محميات طبيعية للحيوانات، ما يجعله مشروعًا بيئيًا متكاملًا.
وإلى جانب تحسين جودة الهواء، أكد الجنديل أن المشروع سيوفر فرص عمل جديدة، كما سيؤدي إلى خفض درجات الحرارة بمقدار 5 درجات مئوية، وتحويل الموقع من منطقة مليئة بالنفايات والأنقاض إلى مساحة خضراء.
وأشار إلى أن المشروع تمت إحالته إلى شركة استثمارية رصينة، بعد وضع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وأمين بغداد حجر الأساس، ومن المتوقع بدء التنفيذ قريباً بعد استكمال إجراءات تسليم الأرض.
في هذا السياق، تحدث مستشار وزارة البيئة، د. عمار العطا، لـ"الصباح"، مؤكدًا أن الحكومة تضع المشاريع والسياسات البيئية في صلب برنامجها الحكومي، وأن مشروع الغابات يعد إحدى المبادرات البارزة التي تسعى لتحسين البيئة في العاصمة.
وأوضح العطا أن معسكر الرشيد، الذي سيُنفذ فيه المشروع، كان يمثل مكب نفايات عملاقًا ومصدراً رئيساً للتلوث، بسبب عمليات الحرق العشوائي، ما أدى إلى تلوث الهواء بشكل كبير. وأضاف أن تحويل هذا الموقع إلى غابات خضراء سيسهم في الحد من التلوث، وتحسين جودة الهواء، وتوفير مساحات خضراء تخدم المجتمع.
وأشار العطا إلى أن المساحات الخضراء تُعد جزءًا أساسيًا من التخطيط العمراني للمدن، ولذلك فإن المشروع ليس فقط تحسينًا بيئيًا، بل هو جزء من رؤية الحكومة لتحسين جودة الحياة في بغداد. وعبّر عن إشادته بهذه المبادرات التي تحول التحديات البيئية إلى فرص استثمارية، مؤكدًا أهمية الاستثمار في المشاريع البيئية التي تسهم في التنمية المستدامة.
وفي ختام حديثه، أكد العطا أن وزارة البيئة تدعم تنفيذ هذا المشروع لما له من آثار إيجابية على العاصمة بغداد وعلى البيئة بشكل عام، وأنه يعد نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في المدن الأخرى.