كرد قبرستان.. مدينة مفقودة تكشف أسرار 4000 عام

بانوراما 2025/03/12
...

 إيدي دوريا

 ترجمة: شيماء ميران


توصلت باحثة وفريقها من جامعة "سنترال فلوريدا" الاميركية إلى اكتشافات جديدة في موقع "كرد قبرستان" القديم تضمنت ألواحاً طينية منقوشة بالخط المسماري القديم ولوحة ألعاب وبقايا هياكل كبيرة، والتي قد تقدم معلومات ثمينة عن هذه المدينة التي تعود إلى العصر البرونزي الاوسط، وتسلط الضوء على المزيد من التاريخ المخفي لبلاد ما بين النهرين.


تعد هذه الألواح المكتشفة الأولى من نوعها في المنطقة ولا تزال قيد الدراسة. وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أنها تعطي فهما أعمق لسكان المنطقة والأحداث المهمة المتتالية التي واجهوها.

كشفت "تيفاني إيرلي سبادوني"، الاستاذ المساعد لمادة التاريخ بجامعة سنترال فلوريدا، وفريق من الباحثين عن اكتشافات مهمة ثقافيا تعود إلى العصر البرونزي الاوسط (1800 قبل الميلاد) في موقع "كرد قبرستان" شمال منطقة بلاد ما بين النهرين، والواقع ضمن أطراف مدينة أربيل شمال شرق العراق. ومنها يمكن القول بعودة جزء كبير من التطور البشري والتاريخ إلى الحضارة القديمة لبلاد ما بين النهرين، التي باتت تسمى جمهورية العراق حاليا.

توضح "إيرلي سبادوني" عبر ملخص عملها الميداني ان دراسة هذه الألواح الحديثة قد تكشف تفاصيل مهمة عن علاقات المدينة بالمناطق المجاورة خلال العصر البرونزي الاوسط واهميتها التاريخية. فعلى سبيل المثال، قد يفهم العلماء ثقافة المنطقة وهويتها الثقافية بنحو أفضل من خلال دراسة اسماء الاشخاص واختيار الكلمات واساليب الكتابة.


التاريخ المخفي

تشير الباحثة إلى أن العصر البرونزي الأوسط لمنطقة شمال العراق غير مفهوم جيدا بسبب محدودية البحوث السابقة عنه والتحيزات المتأصلة عبر المصادر التاريخية المتاحة.

وتقول: "نأمل العثور على المزيد من الوثائق التاريخية التي ستساعدنا على سرد قصة المدينة من منظور شعبها الذي كان يتخذ منها سكنا بدلا من الاعتماد فقط على روايات كتبها اعداؤهم. ومع أننا نعرف الكثير عن تطور الكتابة لدى منطقة جنوب العراق، لكننا لا نعرف كثيرا عن معرفة القراءة والكتابة لمدن شمال بلاد ما بين النهرين، وخاصة قرب اربيل حيث تقع مدينة كرد قبرستان".

غالبا ما تُعرف بلاد ما بين النهرين التي تتميز بشبكة من المدن القديمة وسط السهول الخصبة على طول نهري دجلة والفرات وبالقرب من الخليج بأنها مهد الحضارة المدنية. إذ أسرت هذه المدن مخيلة أجيال من الباحثين، وبقيت محفوظة كقصص وروايات شامخة عن أكوام الحجارة المكدسة على الارض وتشكلت عبر القرون من آثار حضارية متراكمة.

تقول "إيرلي سبادوني": "لا نعرف الكثير عن المدن جنوب بلاد ما بين النهرين والتي تُعد المركز المعروف لها. فعندما نطرح فكرة مكان نشأة المدن لاول مرة، يتبادر إلى الذهن مدن جنوب العراق مثل "اوروك". ومن خلال هذه البعثة العلمية نسعى للبحث في موقع حضري كبير، وأحد المواقع القليلة في شمال العراق التي يمكن لعملية تنقيبها أن يسد هذه الفجوة".

مناطق غير مكتشفة 

عملت "إيرلي سبادوني" والباحثون في منطقتين رئيستين، هما الاحياء السكنية الواقعة إلى الشمال الغربي من المدينة، ومجمع إداري اُكتشف حديثا وتم تحديده ضمن قصر المدينة السفلي، وبناء على اكتشافات العام 2022 تم وضع نظرية وجوده.

استخدم الباحثون تقنيات مثل القياس المغناطيسي التي تسمح بالبحث تحت الأرض لرؤية الخطط المعمارية، وللمساعدة على حفر الموقع. وتوضح أن البحث بما يمثله كقيمة عالية يساعد على تسليط الضوء حول تاريخ المنطقة والتراث العالمي.

تقول "إيرلي سبادوني": "إن تركيز البحث ينصب على تنظيم المدن القديمة ومنها "كورد قبرستان" بالتحديد. وربما سمعنا عن الملك حمورابي صاحب مسلة القانون الشهير خلال الفترة ذاتها منذ أربعة آلاف عام تقريبا. وقررنا أن نستكشف هذا الموقع المثير للاهتمام، والتحقيق حول وضع الموقع بالنسبة لشخص عادي وسط المدينة خلال فترة العصر البرونزي الاوسط، وهو موضوع لم تتم دراسته بشكل كاف، لأن عملية التنقيب كانت موجهة نحو القصور والمعابد، ولم يتم التنقيب الا عن عدد قليل جدا من المناطق السكنية".

كشفت الحفريات داخل منطقة القصر عن الهندسة المعمارية والآثار البشرية وادلة على دمار ما، يشير إلى حصول حدث تاريخي مهم. ويجري التنقيب وسط المجمع الذي تم تحديده من خلال المسوحات الجيوفيزيائية لمعرفة هويته وفهم وظيفته بشكل أفضل.

وتم الكشف من خلال منطقة الاحياء الشمالية الغربية عن ساحات خارجية وانابيب تصريف طينية ونفايات منزلية، وتضمنت الأعمال الفخارية المستخرجة اشياء تستعمل يوميا مثل الكؤوس والاطباق والاوعية وجرار التخزين. وتشير "إيرلي سبادوني" عبر تقريرها إلى أن بعض الفخاريات كانت مزخرفة بطريقة مدهشة ومصنوعة بدقة، ما يشير إلى ان الثروة الخاصة ربما كانت اكثر شيوعا مما كان متوقعا.

وتشير عظام الحيوانات التي تم العثور عليها مع الفخاريات إلى أن السكان يتمتعون بنظام غذائي متنوع، يضم اللحوم الداجنة والطيور البرية، ووفق الادلة الموجودة والمحدودة فإن هذا غير متوقع بالنسبة لسكان النخبة وغير النخبة في المدن الرافدينية.

وقد تُفند هذه الاكتشافات الافكار حول الانقسامات العميقة بين انماط الحياة النخبوية وغير النخبوية في المدن القديمة. وتُبيّن أن رموز ثقافة المقتنيات والممارسات الغذائية تعكس مجتمعا عاش بعضه بمستوى جيد نسبيا، وتؤكد "إيرلي سبادوني" على الحاجة إلى المزيد من البحث والتحليل للاجابة على بقية التساؤلات، وتقول: "نحن ندرس هذه المدينة القديمة لنفهم امور محددة للغاية عن السكان القدماء، اولا الدرجة التي وصلوا اليها في زراعة بيئتهم، ام انها مجرد نتيجة لعملية طبيعية؟، كما نريد فهم تأثير التفاوت الاجتماعي في هذه المدينة القديمة، وهل كان هناك فقراء للغاية واثرياء للغاية؟ ام كانت هناك طبقة متوسطة؟".


نتائج مشجعة 

وبحسب "إيرلي سبادوني"، قد تكون للمدينة أهمية تاريخية عظيمة اذا تم تحديدها بأنها منطقة "قبرستان"، كونها مركزا اقليميا رئيسا أُشير اليها من خلال ألواح بابلية قديمة مثل مسلة "دادوشا" الشهيرة (أحد ملوك اشنونة وسط بلاد الرافدين).

وتوضح ان هناك العديد من الدلائل التي تُضفي المصداقية على نظرية أن "كرد قبرستان" كانت مدينة يطلق عليها اسم "قبرا" البارزة المشار إليها ضمن اللوحات البابلية القديمة او الالواح الاثرية القديمة، وتبيّن أحد هذه الادلة وجود العديد من العلامات على ان "قبرستان" الكوردية كانت تُعد مركز إداري إقليمي رئيس: "يُعتقد أن قبرستان الكردية هي "قبرا" القديمة، وهي مركز اقليمي مهم ذُكر عبر سجلات المدن الاخرى، كما أن تاريخ الكتابة والاثار المعمارية والتحف الادارية الاخرى التي حةتها موجودات قصر المدينة السفلي يدعم هذا بشكل أكبر لأن الموقع لابد أن يكون لمدينة مهمة في عصره".

وتضيف سبادوني أنه مع أن الألواح لا تزال قيد الدراسة، لكن بعض النتائج الاولية مشجعة وتسلط الضوء على الهوية الأهم لشعب "قبرستان الكردية" والعصر الذي سكنوه: "إذ عُثر على اول الالواح الثلاثة وسط مكب مليء بالنفايات إلى جانب بعض انقاض المباني والآثار البشرية، ذُكر فيها احداث درامية قد تكون دليلا على حرب قديمة. ونأمل ان يخبرنا عملنا بحلول نهاية العام الحالي بالمزيد عن هذه القصة.

ومن الجدير بالذكر أن مؤسسة العلوم الاميركية وبمشاركة اقليم كردستان قاما بتمويل جهود البحث والتنقيب، وتم البدء بتنفيذ العمل منذ ايار وحتى تموز من العام الماضي، إلى جانب العمل السابق الذي اجراه فريق جامعة "جونز هوبكنز" منذ العام 2013 ولمدةعشر سنوات، وكانت "إيرلي سبادوني" احد اعضائه.

يُذكر أن "إيرلي سبادوني" انضمت إلى جامعة "سنترال فلوريدا" عام 2016، واصبحت استاذا مشاركا بحلول العام 2022. وحصلت على درجة الدكتوراه بدراسات الشرق الأدنى عام 2015 من جامعة "جونز هوبكنز". يتكون البحث من تحقيقات ذات توجه مكاني لتطور الدولة التوسعية في الشرق الادنى القديم، كما تدير مشروع قبرستان الكردية ضمن إقليم كردستان العراقي.


عن موقع 

جامعة سنترال فلوريدا