جواد علي كسار
موقف واحد متميّز أحياناً يرفع بعض الأمم إلى مستوى الحضور الدائم ويُخرجها من اندثار الذاكرة؛ وهذا ما حصل تماماً لقوم يونس.
من محاسن القدر ومن بركات بلدنا انتماء هؤلاء القوم إلى العراق، إذ يُجمع المفسّرون ومعهم المؤرخون قولاً واحداً، على أن نينوى من أرض الموصل، هي حاضنة قوم يونس، وهي المشهد الجغرافي الذي سجّل وقائع الحادثة، وكفى لها بذلك فخراً.
لقد بعث الله سبحانه لهؤلاء القوم نبياً منهم في الثلاثين من عمره اسمه يونس، مكث فيهم ثلاثاً وثلاثين سنة يدعوهم إلى ربّه والإيمان به والتسليم له، فصدّوا عنه ولم يستجب له إلا رجلان، كما في بعض الروايات، أحدهما عابد منقطع بالعبادة إلى ربه، معتزلاً الناس، والآخر عالِم يمارس حياته بين الناس، يدرس ويتأمل ويعقل ويفكر.
في لحظة يأسٍ من هداية قومه يتّجه يونس النبي إلى ربّه يدعوه لإنزال العذاب على قومه، وهو يقول: "يا ربّ، إنك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة، فلبثتُ فيهم أدعوهم إلى الإيمان بك، والتصديق برسالتي، وأخوّفهم عذابك ونقمتك ثلاثاً وثلاثين سنة، فكذبوني ولم يؤمنوا بي، وجحدوا نبوتي واستخفوا برسالتي، وقد تواعدوني وخفتُ أن يقتلوني، فانزل عليهم عذابك فإنهم قوم لا يؤمنون".
تُجمع مدوّنات التفسير وكتب سير الأنبياء، أن رفيقي نبي الله يونس اختلفا في الموقف المطلوب من قومهما، ففيما أيّد العابد دعوة يونس إلى عذابهم، كان العالِم لم يزل يطمح بهدايتهم وإعطاء المزيد من الفرص لهم للعودة إلى ربهم؛ وهذه بالضبط هي المسافة التي تفصل بين عابد لا تشغله إلا نفسه، وعالِم منهمك بواقع الناس وهمومهم.
لقد استجاب الله سبحانه لنبيّه وحدّد موعداً باليوم والساعة لإنزال العذاب، بلّغه يونس قومه، فكذّبوه وأخرجوه من قريتهم إخراجاً عنيفاً. لكن ما إن اقترب موعد العذاب وحلّ قريباً منهم، استيقنوا بوقوعه، بعد أن انقطعت حيلتهم بطردهم نبيهم، ففزعوا إلى العالِم، يسألونه: ماذا أنت مشير به علينا، فإنك رجل عالِم حكيم، لم نزل نعرفك بالرقة علينا والرحمة لنا؟، اقترح عليهم أن يفزعوا إلى ربهم، ويلجؤوا إليه، ويستنزلوا رحمته بتوبةٍ حقيقية وأوبةٍ صادقة، وقد طلب منهم في السبيل إلى ذلك، أن يفصلوا استدراراً للعفو والرحمة، بين الأمهات وأطفالهم، وبين الصغار والكبار، وأن يضجّوا بالبكاء والتضرّع، وأن يهتفوا بقولٍ واحد: "ربنا ظلمنا وكذّبنا نبيك، وتبنا إليك من ذنوبنا، وإن لا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين، فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين".
زاد من تفجّع موقف العودة إلى الله هذا؛ صراخ الأمهات بطلب أطفالهن، وبكاء الأطفال لطلب أمهاتهم؛ وعجيج الأولاد للآباء والآباء للأولاد، وهكذا.
مشهد إنساني تائب خشعت له الأرض، واستجابت له السماء. أوحى الله إلى إسرافيل: "أن اهبط إلى قوم يونس، فإنهم قد عجّوا إلي بالبكاء والتضرّع، وتابوا إليّ واستغفروني، فرحمتهم وتبتُ عليهم، وأنا التواب الرحيم".
ثمّ أوحى الله سبحانه إلى يونس وقد ذهب مغاضباً، يأمره بالعودة إلى قومه بعد أن استدركوا موقفهم المعاند بالتوبة، فعاد وآمنوا به، وقد خلّد الله ذكرهم خلوداً لا نظير له، بعد أن جعل موقفهم الرائع هذا، قرآناً يُتلى: ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ (يونس: 98).