الملاكات الوسطيَّة.. الحلقة المفقودة بين التعليم وسوق العمل

ريبورتاج 2025/03/13
...

  بغداد : نوارة محمد

في كل عام، يتخرج عشرات الآلاف من الطلبة في الجامعات، حاملين شهاداتهم وطموحاتهم نحو مستقبل مشرق. لكن عند دخولهم إلى سوق العمل، يصطدمون بواقع مختلف تماماً، حيث يواجهون نقصاً في الفرص الوظيفية، وتخصصات لا تتماشى مع احتياجات المؤسسات.

هذه الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق لم تؤدِ إلى زيادة البطالة فقط، بل تركت آثاراً سلبية على بنية الإدارة الوظيفية في الدولة. فقد أسهم غياب الملاكات الوسطية في تعزيز الخلل الهيكلي للمؤسسات الحكومية والخاصة، ما أضعف قدرة الدولة على تنفيذ الخطط التنموية والإصلاحات الإدارية التي تحتاجها السوق المحلية.

وتشير الإحصائيات إلى أن نقص الملاكات الوسطية، خاصة في القطاعات الخدمية مثل الصحة والتعليم، يصل إلى 50 %، وهو ما يرجعه الخبراء إلى ضعف برامج التأهيل المهني، واعتماد منظومة التعليم على التخصصات الأكاديمية التقليدية بدلاً من التركيز على الدراسات المهنية والتطبيقية المطلوبة في سوق العمل. ومع غياب هذه الفئة، باتت المؤسسات تعاني من ضعف الأداء والجمود الإداري، حيث تقف القيادات العليا دون سند تنفيذي، بينما يعاني صغار الموظفين من غياب فرص التطور الوظيفي.

يرى الباحث والأكاديمي الدكتور خالد العرداوي أن تراجع الملاكات الوسطية في العراق يعد نتيجة مباشرة لانهيار الوظيفة العامة، خاصة بعد غزو العراق للكويت، حيث تعرض وضع الموظف العراقي إلى تدهور مستمر. وأوضح العرداوي أن هذا التراجع يعود إلى غياب الاهتمام بتدريب وتطوير الملاكات المتوسطة، إضافة إلى نقص التحديث المستمر للقطاع العام لمواكبة المعايير المهنية الحديثة.

وفي تصريحه لـ "الصباح"، أشار العرداوي إلى أن غياب الملاكات الوسطية بات له تأثير واضح في مجالات عدة، من أبرزها إعداد أفراد قادرين على تولي المناصب القيادية العليا، ما أسفر عن بروز "جمود وظيفي" داخل مؤسسات الدولة وتدني مستوى الأداء المهني. ورغم المحاولات الحكومية لتطوير هذه الفئة، فإن العديد منها لم يكتب لها النجاح نتيجة لأسباب عدة، من بينها ضعف التمويل الحكومي وعدم استمرارية الشراكات الدولية في هذا المجال. كما نوه العرداوي إلى أن القطاع الخاص لا يمكنه معالجة هذه الفجوة، خاصة في ضوء اعتماده المتزايد على الملاكات الأجنبية، واهتمامه بالربحية السريعة على حساب الجودة والمنافسة في السوق.

وفي ما يتعلق بالحلول، اقترح العرداوي أن تلعب الجامعات العراقية دوراً كبيراً في تدريب الملاكات الوسطية بشرط أن تطور هي نفسها أولًا وتحقق مستويات عالية من الجودة في برامجها التعليمية. وأضاف أن "المعرفة الأكاديمية وحدها غير كافية، ويجب أن تكون مدعومة بمعرفة عملية تؤهل الخريجين لمتطلبات السوق"، وهو ما تفتقر إليه الجامعات العراقية حاليًا.

على صعيد آخر، أشار العرداوي إلى أن تزايد معدلات البطالة والظروف الاقتصادية الصعبة جعلت التعليم المهني حلاً محتملاً، لكنه لن يحقق النجاح المطلوب إلا إذا تم تزويده بالموارد اللازمة وأصبح متوافقًا مع احتياجات السوق الحقيقية. ورغم أهمية التعليم المهني في تطوير المهارات المهنية، إلا أن غياب التأهيل الجيد والتحديات الاقتصادية قد تمنع تحقيق نتائج إيجابية في تطوير الأداء المهني في كلا القطاعين العام والخاص.

في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق، ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات لتقليص دور حملة الشهادات المهنية، وتراجع الاهتمام بهذه الفئة التي كانت في الماضي عمودًا فقريًا للعديد من القطاعات. وتظهر هذه المحاولات بوضوح في سلم الدرجات الوظيفية، وهو ما أكدته التدريسية في إحدى إعداديات الصناعة، إخلاص غازي محمد، في حديثها لـ "الصباح".

وأوضحت غازي أن "أغلب الأسباب التي دفعت بعض الطلاب للابتعاد عن الانضمام إلى الأقسام المهنية تتعلق بشكل أساسي بقلة الرواتب والأجور، إضافة إلى تحجيم دور حملة هذه الشهادات مقارنة بحملة الشهادات الجامعية الأخرى". وأضافت أن هناك تحديات إضافية، مثل فرض شروط تعجيزية على هؤلاء الحاصلين على الشهادات المهنية لإكمال دراساتهم العليا، وهو ما يزيد من صعوبة تقدمهم الأكاديمي والوظيفي.

وتابعت غازي مشيرة إلى قلة الفرص المتاحة في الدورات التدريبية داخل العراق وخارجه، وهو ما يجعل هؤلاء الخريجين يفتقرون للامتيازات التي يحصل عليها نظراؤهم من أصحاب الشهادات الأخرى. "وفي حين أن الأقسام الأخرى تحصل على فرص للمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية، فإن الأقسام المهنية لا تجد مثل هذه الفرص"، على حد قولها.

هذا الوضع يعكس حجم التحديات التي يواجهها حملة الشهادات المهنية في العراق، ويضعهم في موقف صعب، حيث تتضاءل فرصهم في التقدم الوظيفي وتلقي الدعم الذي يساعدهم في التطور المهني.

يعتقد الكثيرون أن الأزمة الاقتصادية في العراق تمثل أحد الأسباب الرئيسة في تراجع الملاكات الوسطية، حيث ارتبطت هذه الأزمة بتدهور الوظائف واستهلاك الطاقات البشرية في سوق العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص.

وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش أن "أقسام الصناعة والتجارة والإعداديات المهنية كانت سابقاً تخرج ملاكات فنية معتمدة وخريجين مستعدين للعمل، وكان لهذه الأقسام دور محوري في التطور التنموي للعراق". ويضيف لـ"الصباح" أن هذه الأقسام كانت تمثل العمود الفقري للعديد من المجالات، بما في ذلك الإدارة والمالية والصناعة والزراعة، وكانت تخرج كفاءات عالية من حملة شهادات الإعدادية والمعاهد والبكالوريوس.

لكن، وبحسب حنتوش، مع التقدم الهائل الذي يشهده العالم، أصبحت الملاكات الوسطية في العراق تعاني من إهمال واضح، حيث أصبحت الوزارات والمؤسسات الحكومية، إضافة إلى المصانع والمعامل، عاجزة عن توفير الفرص الوظيفية للعدد الكبير من خريجي هذه الأقسام. وأضاف: "هذا الإهمال جعلها تفقد مكانتها بين الطلاب الذين بدؤوا يتوجهون إلى الجامعات الخاصة والتعليم العالي بحثاً عن فرص أفضل".

وأكد حنتوش أن العراق بحاجة إلى إحياء هذه الأقسام المهنية لاستعادة التوازن في سوق العمل، مشيراً إلى أن وزارة التخطيط تشير إلى أن هذه الأقسام تشكل نحو 15% من القوة العاملة في البلاد. وأوضح أنه من الضروري التوجه نحو الشركات وتقديم مقترحات تشريعية لدعم هذه الكفاءات واستثمارها بالشكل الأمثل، مؤكدًا أن إحياء هذه الأقسام سيكون خطوة حاسمة نحو تطوير سوق العمل وتلبية احتياجاته المتزايدة.

من المؤكد أن التقدم الوظيفي يُعد من أبرز الأسباب التي أدت إلى تفشي ظاهرة نقص الملاكات الوسطية في العراق. فحصول الموظف على ترقية أو منحة دراسية يخلق ضغطًا مستمرًا نحو الترقية، وهو ما يسهم في نقص هذه الفئة الحيوية. وفي هذا السياق، أشار المتحدث باسم وزارة التربية، كريم السيد، في حديثه لـ "الصباح"، إلى أن غياب الملاكات الوسطية في النظام التعليمي والوظيفي والخدمي أصبح ظاهرة واضحة، مشددًا على أن هذا النقص أدى إلى فقدان التوازن الاستراتيجي في الخطة التعليمية.

وأوضح السيد أن "السبب الرئيس لذلك هو أن الجيل الحالي من الموظفين يتوجه نحو التقدم الوظيفي بشكل مفرط، حيث يتم الانتقال من المعلم إلى المدرس بمجرد حصول الموظف على فرصة التفرغ الدراسي لإكمال دراسته والحصول على درجة البكالوريوس". وأضاف أن هذه الظاهرة تسود بنسبة 70% من ملاكات الدولة التعليمية، حيث أصبح الموظفون يركزون بشكل أساسي على السعي نحو درجات وظيفية أعلى وتحقيق درجات دراسية متقدمة.

وفي ما يتعلق بالخطط التدريبية، أكد السيد أنه في المديرية العامة لإعداد المعلمين في وزارة التربية يتم تنفيذ برامج تدريبية خاصة بالملاكات الجديدة، سواء من المحاضرين المثبتين أو من العاملين بنظام العقود. وقال: "الملاكات بحاجة إلى التدريب واكتساب الخبرة، وهذه الآليات جزء من البرنامج الحكومي المعتمد". وأكد أن الوزارة بحاجة ماسة إلى معلمين مؤهلين وموظفين في قطاعات الخدمات التعليمية.

وأشار السيد أيضًا إلى أن وزارة التربية أنجزت مؤخرًا أكثر من 100% من خططها التدريبية للملاكات الوظيفية، خاصة من خريجي إعداديات الصناعة والتجارة والتعليم المهني، وذلك في إطار سعيها لتطوير الكفاءات المتوسطة. وأضاف: "عملنا على سد الشواغر في الوزارة حتى من خلال توظيف حملة الشهادات العليا والأوائل الذين غالبًا ما يتقدمون للحصول على مناصب إدارية في وزارات أخرى، مثل وزارة التعليم العالي". ومع ذلك، أكد أن البلاد ما زالت بحاجة ماسة لهذه الملاكات الوسطية في القطاع التعليمي والخدمي.