(مجرشة) الذات و(علف السبع)

ثقافة شعبية 2025/03/13
...

كاظم غيلان 

تمنحنا المعرفة عافية، وطاقة، وجوداً يخيرنا بين أن نكون أحراراً أم عبيداً، فالأمر متاح لأي منا إزاء خياراتنا .

في سؤال ضمن حوار صحفي أجريته مع الشاعر والمثقف الكبير عبد الرحمن طهمازي قبل سنوات بعيدة، أجاب عن صمته - وقتها-  بثقة العارف : "حين يجد الإنسان أنه يدار من خارج ذاته، فإن عليه أن يعيد تمثيل نفسه".

تذكرت هذه الجملة- الإجابة وأنا أتأمل ذاتي وما ينشر يومياً على صفحات السوشيال ميديا، بوصفها ثقافة اليوم السائدة إلى جانب صحف ومواقع ثقافية، إذ توصلت لبعض أسئلة أجابت بوضوح.

في راهننا الذي نعيشه يكتب الشاعر قصيدته وفي رأسه قائده الحزبي أو زعيم قبيلته أو مرجعه في الطائفة، يحاوره، ويجس نبضه، إن كان راضياً عنها أم ناهياً إياه عن ارتكاب الإثم.

مجزرة هنا وحصار هناك، ولكن المثقف لم يدل بدلوه، فهو بانتظار بيان حزبه أو رأي "الفريضة" والذي على ضوء ما يرد به سيكتب، لا كما يرى بعينه، إنما بما تجسده له نظارته الحزبية .

ظلم هنا وقمع واستلاب هناك، بينما المثقف النقابي ينتظر مناداة عريف الحفل لجنابه، إذ يتفضل بتوزيع الشهادات التقديرية التخديرية بين المشاركات والمشاركين وترتسم ابتسامات عريضة على وجهه أمام كاميرات الفضائيات والسلفيات، فلا قمع ولا استلاب والدنيا بخير وربيع والجو بديع .

نكتب رأياً ويتراءى لنا وقفة الرقيب النقابي والحزبي والعشائري والطائفي فوق رؤوسنا كما الطير، ونرتجف مخافة أن نقول ما تريده الذات التي تتسبب لنا بإباحة دمنا أو طردنا من العشيرة أو فصلنا من الحزب أو حرماننا من المنحة السنوية .

نرتضي ونصفق ولربما نرقص ونغني لاستلام أية مكرمة من الحكومة، لكننا بلا تأمين صحي ولا قانون تفرغ ولا منحة سفر ولن نطالب إلا بما يرضينا للحظات وليذهب المتبقي من العمر فداءً للوطن وجمعياته الثقافية والفنية، ونذراً للدورات الانتخابية التي نصفها بـ (الأعراس) التي هي في حقيقتها مذابح جرت خلف كواليس الفساد، وكل منها كانت (سقيفة) محدثة .

من يرتضي منا هكذا حال فهو يدار من خارج ذاته، إنه الابن الشرعي للعبودية والاستعمار الذي هتفنا بأعلى أصواتنا ضده وطالبنا بسقوطه وها نحن نسقط بينما استعمار الذات ينتصر ويبني "فللاً" ومولات ويشتري آخر موديلات السيارات الفارهة، وينعم ببحيرات ومسابح اصطناعية ومزارع مثقلة بما تشتهي النفس من فاكهة فيها أعناب ورمان، فضلاً عن الخوخ الزردالي  والتين والزيتون .

في الكتابات الأولى لشعر العامية العراقية نسمع أصوات الاحتجاج والتذمر مبكرة، فها هو (ملا عبود الكرخي) يقول :

" هم هاي دنيه وتنكضي 

واحسابك وتاليها 

والله لكسر المجرشه 

والعن ابو راعيها "

بينما يرثي "الحاج زاير" حال الإنسان النزيه بوصفه شجاعاً:

" اليوم حتى التبن علف السبع مايصح"

وان وجد من يأكل لحم الكلب 

" اليوم اكو أنذال تاكل لحمته والجلد "

طوبى لمجرشة كسرت وسبع ظل شريفاً في زمن خياناتنا لذواتنا.