الدعاء .. ضرورةٌ روحيَّة

منصة 2025/03/13
...

 مالك الدلفي


يعد الدعاء رمزا أساسيا في ثقافة وأدبيات كل دين، فهو لا يقتصر على الأديان السماوية، بل يمتد تاريخه إلى العصور السحيقة. 

وعند البحث في تاريخ الديانات، نجد أن هذه الممارسة الروحية، أي الدعاء، كانت حاضرة بوضوح في الحضارات السومرية والأكدية، حيث وجدت نصوص تحتوي على أدعية ومناجاة تعكس تواصل الإنسان مع الآلهة طلبًا للحماية والرزق.

وقد استمرت هذه الممارسات وتطورت في الحضارات اللاحقة، مثل اليونانية والرومانية والفارسية، حيث كانت الأدعية تُستخدم في الطقوس والشعائر المختلفة.

يمثل الدعاء مظهرا من مظاهر الحاجة والفقر والعبودية لله، إذ يعكس عجز الإنسان عن الاكتفاء بذاته، فمهما بلغ من القوة والغنى، فإنه لا يمكن أن يستغني عن القوة المطلقة المتمثلة في الله سبحانه وتعالى. وعلى المؤمن، فضلًا عن غيره، أن يربي نفسه على الدعاء، وأن يدعو الله في كل حين وعلى أي حال، في السراء والضراء، بحيث يروض نفسه على استحضار وجود الله تعالى في جميع اللحظات. فالدعاء هو مخ العبادة وسلاح المؤمن، كما ورد في الأحاديث عن النبي (ص).

ولأن الله كرّم الإنسان، فإنه لا يرضى بأن يُعرّض نفسه (أي الإنسان) لما يجعله في موقف السؤال والذل. وقد ورد في الحديث ما يعكس سخط الله على من يسأل غيره، فعن النبي (ص) قال: "أوحى الله إلى ثلة من أنبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي، لأقطعن أمل كل آمل أمل غيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس، ولأبعدنه من فرجي وفضلي. أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي، ويرجو سواي وأنا الغني الجواد؟ بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وباب مفتوح لمن دعاني".

هذا الحديث يُبرز عظمة الباري وجمال لطفه بعبده، اذ يدعوه إليه ولا يرضى بأن يلجأ إلى غيره فيُذل ويفقد ماء وجهه. إن الدعاء يعزز العلاقة بين المخلوق والخالق، ومن هنا نعلم لماذا جُعل الدعاء مخ العبادة، ولماذا جُعلت الصلاة عمود الدين، لكون الصلاة في جوهرها تحمل معنى الدعاء.

ونجد أن فاتحة الكتاب لا تصح الصلاة إلا بها، وعند تأمل معانيها، نرى أن أغلبها يتضمن نصوصًا دعائية، مثل قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم…)، وهو دعاء المخلوق لخالقه. 

ومن هنا نفهم سرّ أهمية هذه السورة في الصلاة، التي لا تتم من دونها، إذ ان الصلاة حاجة روحية ونفسية، وهي شأن العبد لا شأن الله. والأرجح أن الصلاة بفروضها الخمسة تعني الدعاء، بحيث يبقى العبد في صلة دائمة بالله طوال يومه، ما يجعله يستشعر عظمة البارئ عز وجل، ويملأ قلبه بالسكينة والطمأنينة والثقة.

وبما أننا في شهر رمضان المبارك، نجد عند قراءة الآية الكريمة :(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)، أنها جاءت في سياق الآيات التي تناولت موضوع شهر رمضان، من نزول القرآن وبعض أحكام الصوم. وتشير إلى أن الله قريب من عباده، وأنه يجيب دعاء من يدعوه.

وهناك تفسير لطيف للدكتور حيدر حب الله، يرى أن الدعاء والسؤال المشار إليهما في الآية أوسع من المعنى المتعارف عليه، إذ إن الآية تعني: "إذا طلب العبد حضوري عنده، فأنا سأستجيب له ذلك"، أي أن العبد إذا أراد أن يجعل وجوده مملوءا بالوجود الإلهي، فإن الله سيكون عنده. كما أن الله يريد من العبد أن يستجيب لأوامره ونواهيه أيضًا.

وبما أن الآية جاءت ضمن سياق الحديث عن شهر رمضان، فإن الصائم الذي يصوم بكامل جوارحه، وليس فقط بالامتناع عن الطعام، يحتاج إلى استحضار وجود الله في كل لحظة، وأن يكون على يقين بأن الله يستجيب لمن يطلب حضوره.

إذن، نخلص إلى أن الدعاء ضرورة روحية، وله أثر نفسي ووجودي عميق في حياة الإنسان. فمن لم يكن على تواصل دائم مع الله، مستحضرا وجوده، فإنه سرعان ما يقع أسيرا لليأس والكآبة والقنوط، مما يزيد من شعوره بالاغتراب الوجودي. 

والدعاء يجب أن يسبقه توكل وثقة بالله، إذ إن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم صدق الطلب في الحقيقة، كما أشار إلى ذلك العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان.