جواد علي كسار
هذا رجل تأخذ نفسه الحسرات أن لم يشارك المدينة في فاجعة وفاة الرسول، فيقدم إليها بعد مدفنه بأيام.
يقول الإمام أمير المؤمنين في وصف الواقعة : قدِمَ علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي، وحثى التراب على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ وقد ظلمتُ وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غُفر لك.
ما ثمّة فرق قطّ في اللوذ برسول الله صلى الله عليه وآله واللجوء إليه بين حياته ومماته. على ذلك مضت سيرة المسلمين وهي لم تزل كذلك، فهو أحد الأمانين، كما يُروى عنه: "أنزل الله عليّ أمانين لأمتي: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33]، فإذا مضيتُ تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة".
بيدَ أن الأبدع من ذلك مما يُشير إلى استمرار دور الرسول في الاستغفار لأمته حتى بعد رحيله، وأن يكون اللاجئ إليه في مماته كاللاجئ إليه في حياته، هي قوله: «إن مقامي بين أظهركم خيرٌ لكم، وإن مفارقتي إياكم خيرٌ لكم». فقام إليه الصحابي جابر بن عبد الله، مستوضحاً: «يا رسول الله، أما مقامك بين أظهرنا فهو خيرٌ لنا، فكيف يكون مفارقتك إيانا خيراً لنا؟» أجاب النبي: "أما مقامي بين أظهركم خيرٌ لكم، لأن الله عز وجلّ، يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ وأما في مفارقتي إياكم فهو خيرٌ لكم، لأن أعمالكم تُعرض عليّ كلّ اثنين وخميس، فما كان من حسن حمدتُ الله عليه، وما كان من سيء استغفرتُ لكم".
لذلك حذّرت عدّة من الأحاديث من مساءة رسول الله وإيذائه بالمعاصي والأعمال السيئة، حتى قال الإمام الصادق مستنكراً: «ما لكم تسؤون رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فسأله رجل: فكيف نسؤوه؟ أجاب: أما تعلمون أن أعمالكم تُعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسيئوا رسول الله وسرّوه». كما أيضاً: "إن أعمال العباد تُعرض على رسول الله كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروا، فليستحي أحدكم أن يعرِض على نبيّه العمل القبيح".
لا فرق في مساءة النبي بين حياته ومماته، ما دام هو الشاهد على أمته، ولا فرق في الاستجارة به وطلب الاستغفار منه بين الحالين. فها هي ذي حضرة النبي تشهد نقاشاً بين أبي جعفر المنصور والفقيه مالكاً، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدّب قوماً، فقال: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾. ثمّ قال أبو جعفر سائلاً: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله؟ ردّ مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله تعالى، قال الله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾.