16 آذار.. رمزٌ للإبادة الجماعيَّة في العراق

بغداد: مقتدى أنور
في صبيحة الـ 16 آذار 1988، تحولت مدينة حلبجة، التي كانت تعيش بسلام، إلى مجزرة مروعة، حيث شن نظام البعث الصدامي هجوما كيميائيًا بالطائرات على المدينة باستخدام غازات سامة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من خمسة آلاف من المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال. الغازات السامة تسببت في اختناقهم، بينما عانى آخرون من تشوهات خطيرة وآثار صحية ما زالت قائمة حتى اليوم.
يُعد 16 آذار يوما مهما في ذاكرة العراقيين، فهو لا يمثل فقط مجزرة حلبجة والأنفال، بل يُعتبر أيضا يوما لإحياء ذكرى جميع ضحايا النظام البعثي الصدامي، سواء كانوا من أبناء الكرد وباقي مكونات الشعب العراقي، أو حتى المعارضين السياسيين. ففي هذا اليوم، يَستذكر العراقيون ضحايا الانتفاضة الشعبانية والمقابر الجماعية واغتيال العلماء واستهداف الأحزاب، ضمن سلسلة الجرائم، التي ارتكبها ذلك النظام بحق الشعب العراقي.
من جانبه، يرى الأكاديمي هوشيار مظفر أن جرائم النظام البعثي لم تكن مجرد أعمال عنف عشوائية، بل كانت سياسة ممنهجة للقمع والإبادة، استهدفت مجموعات معينة من الشعب العراقي. وقد أشار إلى حملات الأنفال التي استهدفت الكرد أواخر الثمانينيات، والتي قُتل فيها عشرات الآلاف ودُمرت فيها آلاف القرى. كما تم نقل الكرد قسرًا إلى معسكرات الاعتقال، حيث اختفى العديد منهم إلى الأبد.
بالإضافة إلى ذلك، أكد مظفر على مجزرة حلبجة 1988، التي استخدم فيها النظام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، مما أسفر عن مقتل أكثر من 5000 شخص في لحظات. وقال مظفر إن هذه الجرائم تعد تجسيدًا لوحشية نظام لم يقتصر على القمع السياسي فقط، بل سعى إلى محو هويات جماعية، مستهدفًا الكرد، الشيعة، وحتى بعض الفئات من السنة والتركمان، ما يعكس توحش النظام ضد جميع العراقيين.
وأشار مظفر إلى أن المجتمع الدولي لم يتعامل مع جرائم صدام بالطريقة نفسها التي تعامل بها مع مجازر البوسنة أو رواندا. ولم يُفرض ضغطا دوليا كافيا لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، بل إن بعض المتورطين تم نقلهم إلى دول أخرى ولم يتم تسليمهم للعراق، رغم وجود تقارير وشهادات موثقة تثبت أن هذه الجرائم كانت مخططًا مسبقًا، مثل الإعدامات الجماعية، الهجمات الكيميائية، والتجويع والاعتقال القسري.
من جانبه، أكد المحلل السياسي أحمد الهركي أن "الكلمات تعجز عن وصف بشاعة ووحشية الجرائم التي ارتكبها النظام المقبور بحق آلاف الأبرياء". وأضاف الهركي أن العديد من هؤلاء الضحايا، الذين دُفنوا في مقابر جماعية، لم يكن لهم أي ذنب سوى معارضتهم للنظام أو انتمائهم القومي والمذهبي.
وأشار الهركي إلى أن الجرائم التي ارتكبها النظام كانت إبادة منظمة، حيث استخدم النظام البعثي سياسات قمعية ضد جميع من يعارضه. وأضاف أن "من غير الممكن أن نتخيل حجم المعاناة، التي تعرض لها هؤلاء الأبرياء، وهو ما يجعلنا نطالب بتعويضهم مادياً ومعنوياً بطريقة تليق بحجم معاناتهم، وتكون ردًا كافيًا على الظلم الذي تعرضوا له". وأكد ضرورة أن يتخذ النظام القضائي العراقي خطوات أكثر فاعلية لضمان تحقيق العدالة والتعويضات المناسبة للضحايا وعائلاتهم.
وبالحديث عن المجتمع الدولي، أشار الهركي إلى أن المجتمع الدولي سعى بشكل جاد للحد من الجرائم الدولية ووقايتها، وأن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي أُبرمت في 1948 كانت من أهم الخطوات في إيجاد غطاء قانوني دولي لتجريم هذه الأفعال. وأضاف أن العراق كان من بين الدول التي وقعت على الاتفاقية، إلا أن الجرائم استمرت، وهو ما يثبت وجود قصور في النظام القانوني الدولي والمحلي في منع جريمة الإبادة.
الهركي شدد على أن هناك حاجة ملحة لإيجاد آليات ملائمة على المستوى الدولي والوطني لضمان الالتزام بالقوانين، التي تم إقرارها لمنع الإبادة الجماعية. ورغم توقيع الاتفاقية، فإن القصور في التنفيذ أتاح للنظام المباد مواصلة ارتكاب جرائمه المروعة بحق الشعب العراقي.
من جهته، تحدث عضو منظمة الدفاع عن حقوق ضحايا المقابر الجماعية، فؤاد عثمان طه، لـ"الصباح" قائلا: ان النظام المقبور نفذ عمليات الأنفال والإبادة الجماعية بسرية تامة، ولجأ إلى تصفية الضحايا بأسلوب الدفن الجماعي، في مناطق نائية في الصحراء الجنوبية للبلاد، منها صحراء السماوة والبادية قرب عرعر ومناطق في الديوانية، بهدف إخفاء الأدلة ومنع اكتشاف الجرائم.
وأضاف أن فتح المقابر الجماعية ما زال يسير ببطء شديد، إذ لم يُفتح حتى الآن إلا عدد محدود مقارنة بحجم الجرائم المرتكبة، مشيرا الى انه تمت إعادة رفات نحو 3000 ضحية فقط إلى إقليم كردستان من أصل 182 ألف ضحية لعمليات الأنفال. وأكد طه أن هذا التأخير يشكل عائقًا أمام معرفة مصير آلاف المفقودين، وهو أمر حساس للغاية ومطلب جماهيري مستمر في اقليم كردستان.
ولفت إلى أن الملف يواجه العديد من التحديات القانونية والإدارية واللوجستية، مشددًا على أن غياب دور فاعل لإقليم كردستان في عمليات الكشف وفتح المقابر يعد من أكبر هذه التحديات. ونوه طه بأن قانون المقابر الجماعية الحالي لا يمنح الإقليم أي صلاحيات تُذكر، وهو ما يستدعي تعديل بعض فقرات القانون، عبر مجلس النواب لمنح حكومة الإقليم دورًا أكبر في جميع الإجراءات المتعلقة بملف المقابر الجماعية، من التنقيب والكشف وصولًا إلى إعادة الرفات إلى ذويهم.
وبشأن القوانين ومدى إنصافها الضحايا، أكد عضو منظمة الدفاع عن حقوق الضحايا أن العبرة ليست في وجود القوانين فقط، بل في تنفيذها، مشيرًا إلى أن هناك قوانين شُرعت بشكل منتظم، لكنها لم تُنفذ كما يجب. واستشهد بالمادة 132 من الدستور العراقي، التي لم تُطبق حتى الآن رغم أنها تخص ضحايا الإبادة الجماعية.
في غضون ذلك، أكد الأمين العام لمؤسسة حقوق الإنسان في العراق الدكتور وليد الحلي، أن تنفيذ قرار مجلس النواب المتمثل بتشريع قانون حظر حزب البعث والكيانات والأحزاب والأنشطة العنصرية والإرهابية، كفيل بحماية حقوق الإنسان، من خلال تحصين العراق من التمييز الطائفي أو العنصري والحيلولة دون عودة الدكتاتورية، وبما يحقق آمال أسر الشهداء والسجناء السياسيين والمظلومين، بأن المعتدي والظالم والإرهابي والمجرم لا يمكن أن يفلت من العدالة.
واشار الحلي لـ"الصباح"، الى أن في حكم البعث لم يكن هناك التزام بالمؤسسات الدستورية ولا قضاء محايد ومستقل، يستند إليه المواطنون في الدفاع عن انفسهم وحقوقهم أمام جرائم القتل والاعتداء على الكرامات، مضيفا أن الحزب المقبور قصف المدن المنتفضة بالصواريخ والأسلحة المحرمة لإخماد انتفاضة الشعب العراقي، وارتكب انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان والتي تعود اساساً إلى النزعة الفردية المطلقة لرئيس النظام المقبور وحزبه، الذي حكم العراق بالحديد والنار طيلة ٣٥ عاماً.
وأوضح ان الانتهاكات التي مارسها حزب البعث الصدامي، كالقرار القاضي بإعدام أعضاء حزب الدعوة الإسلامية، دون استثناء أحد، مخالف للقانون الإسلامي وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وأشار الحلي الى الانتهاكات التي مارسها ذلك النظام لحقوق الإنسان ابان انتفاضة شعبان الجماهيرية عام ١٩٩١، من خلال تصديه لقمع الانتفاضة التي شاركت فيها ١٤ محافظة عراقية منها الإعدام دون اجراءات قضائية والتعذيب باستخدام الممارسات اللا إنسانية، اضافة الى قتل المواطنين بدفنهم احياء في مقابر جماعية.
وتُعد المقابر الجماعية من أبشع الجرائم الإنسانية، حيث يتم قتل عدد كبير من الأشخاص في وقت قصير ودفنهم في مكان واحد بهدف إخفاء الأدلة وطمس الحقائق. هذا ما أكدته الدكتورة نادية الجدوع، خبيرة القانون الدولي، التي أوضحت أن هذه الجرائم غالبًا ما تحدث استهدافًا لأفراد، بسبب انتمائهم العرقي أو الديني أو السياسي.
وأشارت الجدوع لـ"الصباح" إلى أن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي أُعتمدت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة تُعَرف الإبادة الجماعية كجريمة دولية، سواء وقعت في أوقات السلم أو الحرب. وأضافت أن المادة الأولى من الاتفاقية تُلزم الدول بمنع هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، بينما تعرف المادة الثانية الإبادة الجماعية بأنها أفعال تهدف إلى تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية. وتؤكد المادة الرابعة أن العقوبات تشمل الجميع دون استثناء، سواء كانوا حكامًا أو أفرادًا.
بدورها، شددت عضو لجنة الشهداء النيابية أمل العطية، على ضرورة العمل الجاد والمستمر لإنصاف ضحايا المقابر الجماعية وذويهم، معتبرة أن ذلك يُعد واجبًا وطنيًا وإنسانيًا. وأكدت العطية في تصريح لها على أهمية مبادرتها التشريعية التي تهدف إلى إعداد مشروع قانون يُعتبر فيه المقابر الجماعية جريمة ضد الإنسانية، بما يضمن تجريم هذه الأفعال الوحشية وعدم السماح للمرتكبين بالإفلات من العقاب.
وأضافت العطية أن من أبرز أهداف هذا المشروع هو توثيق المقابر الجماعية وكشف الحقائق أمام الرأي العام، فضلاً عن ضمان حقوق ذوي الضحايا في التعويض والإنصاف. كما أكدت ضرورة إنشاء هيئة وطنية مستقلة لإدارة هذا الملف الإنساني المهم، الذي يتطلب جهدًا منظمًا لملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم.
وأشارت العطية إلى أن لجنة الشهداء ومؤسسة الشهداء يجب أن يكون بينهما تعاون مباشر ومنهجي لتوثيق الجرائم، وذلك من خلال تبادل المعلومات والوثائق. ولفتت إلى أن اللجنة تعتمد على مؤسسة الشهداء في تزويدها بـ ملفات دقيقة حول الشهداء، وتفاصيل الجرائم، وأسماء الجناة، وشهادات ذوي الضحايا. كما أضافت أن اللجنة تواصل جهودها في اقتراح وتعديل القوانين، التي تضمن حماية حقوق الشهداء وذويهم بناءً على البيانات الموثقة التي تقدمها المؤسسة.