الجفاف يدق أبواب إسطنبول

بانوراما 2025/03/18
...

 كاتي نادورني 

 ترجمة: مي اسماعيل


كثيرا ما تتحدث "جودي هاربرت" عن الصقر.. ففي مستنقعات بلدة "شيلا" (التي دخلت منذ سنوات ضمن حدود اسطنبول الكبرى) حيث تعيشُ؛ اعتادت هاربرت على رؤية صقرٍ يَحط على المستنقعات قرب النهر.. إعجوبة مفترسة صغيرة وسط مجموعة متنوعة من الطيور والحشرات والحياة البرية التي تسمي النهر موطنا لها.. غادر ذلك الصقر (كالنبوءة) حينما بدأت البلدية بتغليف ضفاف النهر بالخرسانة.

تقول هاربرت: "من المفترض ان تكون تلك المنطقة مشبعة بالماء؛ إذ من المفترض بقاء الماء هناك.. إنها مستودعٌ مائيٌ ضخم. واذا أردتَ تلافي حدوث الجفاف؛ فعليكَ الاحتفاظ بالماء في تلك التربة.. ولن تستطيع ذلك إذا غلّفت الضفاف بالكونكريت". مشكلات نهر صغير ببلدة شيلا ما هي الا جزء من المشكلة الأكبر التي تُهدد بالانقضاض على اسطنبول: ما الذي سيجري إذا ما نضب الماء في المدينة؟ 


عطش المدينة

واجه سكان اسطنبول مطلع العام 2021 سيلا من العناوين الرئيسة المشؤومة، وكانت تلك العناوين تظهر ببطء أول الامر ثم بسرعة: أن اسطنبول قد تخلو من المياه خلال 45 يوما. وبانخفاض مستويات مياه الخزانات بشكل صادم وقلة الأمطار الشتوية القادمة؛ كان من المحتمل ان مدينة الخمسة عشر مليون شخص قد لا يكون فيها مياه للشرب قريبا. لذا، ووفقا لتوجيهات مديرية الشؤون الدينية (وقف الديانة) التركية أُقيمت صلوات الاستسقاء في الجوامع يوم الجمعة. لم تكن تلك هي المرة الأولى للحدث؛ إذ تحفل وسائل الاعلام بإسطنبول بأخبار مشابهة كل بضع سنوات.. الآن تدق أجراس الإنذار ثانية؛ فخلال شهر تشرين الثاني الماضي بلغ معدل مياه الخزانات مستوى شديد الانخفاض (نحو 37 بالمئة). وفي كانون الأول 2023، أعلن وزير الزراعة والغابات "إبراهيم يوماكلي" أن تركيا معرضة لخطر ندرة المياه الشديدة بحلول العام 2030، وأن الكثير من السكان قد يشعرون بتأثير نقص المياه خلال السنوات الست المقبلة. 

تواجه بحيرة "كوجك جكمجة"؛ وهي مصدر مهم لمياه اسطنبول؛ خطر التلوث والجفاف.. فالجفاف على الابواب؛ وحينما يختفي الماء تصبح الكارثة بطيئة الوصول على الابواب ولا بد من مواجهتها.. يقول"اكجون اولهان"، المحاضر بجامعة البسفور والمتخصص بإدارة المياه الحضرية وتقاطعاتها مع تغير المناخ: "تواجه إسطنبول بالفعل ندرة كبيرة في المياه، ونحن نقترب من الحدود البيئية القصوى. علينا أن نواجه هذا الواقع، أو نستطيع الاستمرار بتجاهله ومواجهة العواقب".


دروسٌ من التاريخ

إسطنبول مدينة تحيطها المياه من كل جانب: البحر الأسود شمالا وبحر مرمرة جنوبا، ومضيق البوسفور الذي يقسم مركز المدينة نفسها؛ وكلها مسطحات مائية مالحة، دون وجود أي نهر يوفر المياه العذبة. ومع تنامي مكانتها لتكون مدينة ذات أهمية محلية وعالمية؛ امتدت المدينة وابتلعت ضواحيها، وأصبحت عطشى للغاية. لطالما كانت إسطنبول مدينة كبرى على الدوام، ولكنها أصبحت الآن مدينة عملاقة؛ إذ تضخم عدد سكانها خلال النصف الثاني من القرن العشرين.. فخلال خمسينيات القرن ماضي كان عدد سكان إسطنبول نحو مليون نسمة؛ وبحلول الثمانينيات بلغ عددهم خمسة ملايين، ويبلغ عددهم الآن نحو سبعة عشر مليونا. يتزايد الطلب على المياه مع ارتفاع عدد السكان؛ وكلما انتشرت المناطق السكنية على أحواض المياه لمدينة إسطنبول، تقل كميات المياه المتاحة داخل المدينة ذاتها. تماشيا مع تلك الظروف أنشأت سلطة المياه في المدينة بُنى تحتية خزنية مصممة لجلب المياه من قرى تقع على بُعد مئات الكيلومترات خارج المدينة. ولكن حينما تستنفد تلك البُنى مخزون المياه من القرى وتُضر بالزراعة؛ سيضطر السكان غالبا إلى اقتلاع جذورهم والانتقال (إلى إسطنبول على الأغلب)؛ مما يؤدي إلى زيادة عدد سكانها وتفاقم المشكلة؛ كما تقول هاربرت: "تتغذى إسطنبول على تركيا بأكملها؛ وهو أمر أشبه ما يكون بامتصاص الدماء.. هذا ما تفعله المدن". 

بالنسبة لمدينة لها تاريخ طويل مثل إسطنبول؛ يمتلك الحاضر (وربما المستقبل) صدى من محاولات الماضي لإيصال المياه إلى مركز حضري على البحر.. لقد كتب الفيلسوف اليوناني "ثيميستيوس" خلال القرن الرابع عن مدينة القسطنطينية (التي ستصبح إسطنبول لاحقا) إنها "المدينة العطشى".. وهي ملاحظة ثاقبة ما زالت صحيحة حتى الآن. فما تزال البنية الأساسية للمياه من العصور القديمة مرئية ضمن النسيج الحضري المعاصر للمدينة. وهناك طريق سريع رئيسي يمر مباشرة تحت قناة "فالنس" المائية، التي تمتد مثل قوس قزح فوق الشارع، ويعود تاريخها إلى زمن ثيميستيوس. 

يتجول "كريم ألتوغ" داخل خزان "بينبرديريك" الفارغ تقريبا بمنطقة السلطان أحمد، وسط مركز شبه جزيرة إسطنبول التاريخية. يعني اسم الخزان: "1001 عمود"؛ ولكنه يحتوي واقعيا على 224 عمودا فقط. ويقول ألتوغ؛ عالم الآثار والمؤرخ المعماري الدارس لأنظمة المياه البيزنطية: "لقد بالغوا بالقول؛ لأن المكان كان (خلال العهد العثماني) مظلما تماما فلا توجد كهرباء، وعندما يدخل الناس يقولون: ربما يستمر هذا إلى الأبد..". 


انجازاتٌ هندسيَّة

قبل أن تحمل اسم القسطنطينية كانت المدينة عبارة عن بلدة رومانية عادية ضمن الإمبراطورية. وعندما أنشأ قسطنطين الكبير (أول إمبراطور روماني يعتنق المسيحية) المدينة قبل 1700 عام؛ ازداد عدد السكان بشكل كبير خلال فترة قصيرة من الزمن. ولأجل إيصال المياه إلى المدينة، أنشأت الحكومة الإمبراطورية أطول خط روماني لإمداد المياه في العالم القديم؛ بما فيه من قنوات مائية ضخمة من الغابة الواقعة غرب المدينة. يقول ألتوغ: "كانت قناة فالنس أطول نظام قنوات مائية، جرى بناؤه على الإطلاق في جميع أراضي الإمبراطورية الرومانية.. وبدت القسطنطينية مدينة فريدة من نوعها؛ ولعل هناك آلاف الصهاريج الجوفية التي بُنيت خلال الفترة البيزنطية بين القرنين الخامس والخامس عشر". 

لا يزال هذا التاريخ ملموساً عبر المدينة الحديثة؛ إذ إن هناك ما يقرب من 200 خزان على شكل كهوف ضخمة مقببة لتخزين المياه تقع تحت شبه جزيرة إسطنبول التاريخية. والعديد منها لم يجرِ التنقيب عنها بعد، بينما جرى ترميم بعضها مؤخراً؛ مثل خزان بينبرديريك. ويشكل تاريخ إسطنبول الطويل في إدارة البنية الأساسية للمياه لتلبية احتياجات السكان المتزايدين بوابة بين الماضي والحاضر. يقول ألتوغ وهو يلمس أعمدة خزان بينبرديريك: "بُنيَ هذا الخزان عام 400 ميلادي (القرن الخامس) وما زال قائما.. إنه لأمر مدهش! يا له من كنز وإنجاز هندسي. يا له من إنجاز لقدرات البشر". 

يقول "جيم كرو" (استاذ فخري لعلوم الآثار الرومانية والبيزنطية بجامعة إدنبرة): "يسهل القول إنك تستطيع التعلُّم من الماضي؛ ولكن تجربة الماضي يمكن أن تكون واقعيا ذات قيمة كبيرة لتوجيه تطبيقات الحاضر والمستقبل؛ وهذا يختلف عن التعلم من الماضي". بدأ "كرو" العمل في تركيا منذ عقود من الزمان، وبات مفتوناً بالبنية التحتية للمياه هناك أثناء التنقيب الذي جرى سنة 1994 عن أسوار "أنستاسيان" بمنطقة تراقيا غرب إسطنبول. كشف ذلك التنقيب عن شبكة واسعة من القنوات المائية المخفية وسط الغابة الكثيفة. تعاون كرو عام 2021  مع "إلهان" و"إندر بيكر" (الأستاذ المساعد بجامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة) للعمل على مشروع بالتعاون مع المعهد البريطاني بأنقرة. وأجرى الفريق سلسلة من ورش العمل حول منهجية البحث العملي التشاركي مع البلديات المحلية حول مشاريع حصاد مياه الأمطار التي يمكن أن تحتفظ بالمزيد من مياه إسطنبول. 

يقول بيكر: "كانت الفكرة الرئيسية هي النظر إلى النمط التاريخي لأنظمة جمع المياه لعموم مدينة إسطنبول واستكشاف كيفية إدارتها على امتداد العهود الغابرة. لذا عملت مجموعة (تتألف في الأساس من علماء الآثار والمؤرخين) على فهم النمط التاريخي لإدارة المياه، وركزت المجموعة الأخرى (التي تتألف من المخططين وعلماء الاجتماع، بقيادتي مع إلهان) على التحديات المعاصرة. وكانت الفكرة أساسا هي التعلم من التجارب الماضية وتعديلها بطريقة ما لتنفيذها ضمن الوضع الحالي".


حصاد الامطار

 كانت هناك طريقتان رئيسيتان لحصاد مياه الأمطار: مياه الأمطار التي تُجمع من على أسطح المباني، أو مياه الأمطار التي يجري جمعها من الأماكن العامة الكبيرة. ويمكن استخدام مياه الأمطار التي تُجمع من على أسطح المباني لتنظيف الحمامات أو غسيل السيارات أو ري الحدائق. بينما يمكن استخدام الكميات الأكبر من المياه المجموعة للتنظيف النظامي لشوارع إسطنبول من قبل عمال البلدية.

صدر خلال الآونة الأخيرة قانون يُلزم بعض المباني المشيدة على مساحات محددة من الأراضي أن تكون مزودة بقدرات حصاد مياه الأمطار وأنظمة المياه الرمادية (وهي عملية تنقية واعادة استخدام المياه الناتجة عن الاستحمام والغسالات ومغاسل الحمامات. المترجمة). ويمكن للبلديات المحلية أيضا تقرير جعل مساحة جمع المياه المتاحة أصغر من الحجم المطلوب؛ مما يسمح للمزيد من المباني بالتأهل للقانون؛ رغم وجود المقاومة من جانب مطوري المباني. يقول بيكر: "إنه لتحدٍ ضخم، من حيث إنشاء آلية حوكمة بين كل تلك الجهات الفاعلة على مستويات مختلفة من السلطة".

يمكن لتوسيع الحدائق داخل المدينة أن يساعد أيضا على الاحتفاظ بالمياه ومنع الفيضانات؛ ويجري تصميم "المدن الإسفنجية" لامتصاص أكبر قدر ممكن من مياه الأمطار بشكل طبيعي، مع احتفاظ الحدائق والأراضي الرطبة بالمياه. لكن لإسطنبول علاقة متوترة مع حدائقها؛ لذا تصطدم الكثير من مياه الأمطار بمساحات الخرسانة الواسعة لشوارع المدينة المكتظة والمنحدرة الى البحر. لكن مدنا مثل لوس أنجلوس وبانكوك استفادت من الجهود المتضافرة لإنشاء المزيد من البنية التحتية للمدن الإسفنجية. 

أصبحت تأثيرات مشكلات مياه إسطنبول محسوسة على امتداد ضواحي المدينة وخارجها، قبل أن تمتد إلى مركزها. فالقرى القريبة من سد "ملين" تتعرض للدمار الزراعي بسبب البنية الأساسية للمياه، التي تنقل مياه الشرب مئات الكيلومترات الى إسطنبول، كما قادت الأنهار المبطنة بالخرسانة في منطقة "شيلا" إلى حدوث فيضانات محلية وتسرب المياه بعيداً عن إسطنبول. 

تقول إلهان: "تزداد صعوبة إدارة الموقف مع استمرار نمو السكان، ومع ذلك النمو يرتفع الطلب على المياه؛ وتشعر السلطات المحلية بأنها ملزمة بتغطية هذا الطلب المتزايد. والواقع ان إسطنبول، حتى انقطاع المياه ليوم واحد فيها قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الحكومة؛ وهنا تكمن مديات الخطورة".

يتفق معها بيكر )شريكها بورش العمل الخاصة بالمياه( قائلاً: "عندما تسحب المياه (كمصاص الدماء) من مصادر أخرى حول المناطق الحضرية الداخلية؛ فسوف يؤدي إلى مشكلات ضخمة حقاً؛ ليس فقط مشكلات المياه، بل المالية والزراعية للمناطق الريفية". 


الارادة السياسية

لغرض معالجة الموضوع المائي محلياً؛ أسست هاربرت وزوجها "سردار" منظمة "سودا-Suda" (منصة للتنمية الحضرية المستدامة)، واقترحت حلولا للحفاظ على الأنهار وإدارة المياه في شيلا. من بين المبادرات التي تبنتها المنظمة مشروع واحة شيلا؛ الذي يجمع بين السياحة والحفاظ على البيئة والتعليم عبر "مسار أخضر" على طول نهر يني كوي المحيط بمدينة شيلا. استلهمت هذه الخطة من واحة "إيبسويتش" البريطانية، بترك منطقة عازلة حول ضفاف النهر دون تطوير من قِبَل شركات البناء، وتعزيز التجديد البيئي، ودعم الشركات المحلية والسياحة بطريقة مستدامة.

التقى اعضاء المنظمة خلال أواخر أيلول الماضي نائب رئيس بلدية شيلا لتقديم مقترحاتهم، وقد أبدى الأخير اهتمامه بالموضوع؛ لكنه كان واقعي التعامل مع القضية الرئيسة: الإرادة السياسية.. فقد يكون تنفيذ مشاريع البنية الأساسية الحضرية الضخمة معقداً بالنسبة لأي مدينة؛ ولكن مجتمعا شديد الاستقطاب مثل تركيا سيجعل كل قرار منعكسا من خلال مرايا السياسة.

مع اقتلاع القصب الطبيعي من مجرى النهر وتغطيته بالخرسانة؛ أصبح صقر هاربرت يشبه طائر كناري داخل منجم فحم (= معرضا للموت في أي لحظة. المترجمة)؛ وهذا أحد أعراض مشكلة مياه إسطنبول المعقدة. يقول كرو: "لا يتعلق تغير المناخ فقط بنقص المياه؛ بل بتغيير الأنماط، وكيف تصبح المدينة أكثر مرونة لمواجهة تلك الأنماط المتغيرة. بالنظر إلى الماضي، ندرك تعقيد عدد العوامل؛ سواء كانت الضغوط السياسية أو الخارجية، وليست نوعا واحدًا من الحتمية. ما يلفت الانتباه دائما هو: أن هذه الإمبراطورية ماتت بسبب الجفاف؛ لكن تعقيد الماضي هو ما يحتاج المرء لإدراكه.."


بي بي سي البريطانية