جواد علي كسار
بدر هي فرقان فاصل في تاريخ الدعوة، قاد النصر فيها إلى بداية تكوين الأمة المسلمة: ﴿وَمَا أنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾.
بدرٌ هي عيون ماء تبعد عن المدينة المنورة بنحو (150) كم، اختارها النبي ميقاتاً لحرب فاصلة مع قريش، عندما اتجه إليها في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة. لم يتجاوز عدد المسلمين (313) مقابل (950) لقريش على أشهر الأقوال.
بدأت مقدّمات الغزوة بملاحقة المسلمين بأمر النبي، لقافلة قرشية ضخمة على رأسها أبو سفيان، وقد سلمت الأموال فرغب قادة قريش بالكفّ عن المواجهة، لولا موقف تصعيدي من أبي جهل، وقد رام إنهاء أمر الدعوة ونبيّها ورجالها، بضربةٍ قاضية: "لا، واللات والعزى حتى نقتحم عليهم بيثرب ونأخذهم أسارى، فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، ولا يكونن بيننا وبين متجرنا أحد
نكرهه" .
عندما بلغ أصحاب النبي كثرة قريش فزعوا فزعاً شديداً، وبكوا واستغاثوا: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لكم﴾. وقد غلب على المهاجرين وهم يعرفون قسوة قريش وسطوتها؛ الرأي بالعودة إلى المدينة والكفّ عن القتال، حينما سألهم النبي، فكان من بين ما قالوا محذّرين النبي عندما شاورهم الرأي: «يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزّت». بيدَ أن النبي اختار رأي الأنصار، بعد أن أبدى الزعيمان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، تأييدهما لرغبة النبي في الحرب والمواجهة.
خرج النبي إلى بدر وقد رفع يده إلى السماء، وقال: «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تُعبد». وعند بدء المنازلة الأولى، وقد تقدّم إلى القوم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، خاطبهم النبي: "لقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره".
دخلت السماء بثقلها في هذه المعركة الحاسمة، معركة يوم الفرقان بين الحق والباطل، وكان من أطوار الدعم الرباني للجماعة المسلمة، النوم الذي غلبهم ليمتصّ قلقهم، وماء خير من السماء: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾. بل كانت الملائكة تقاتل إلى جوارهم: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ بالإضافة إلى ما ألقاه سبحانه في قلوب المشركين من الرعب: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾.
تساقطت رموز قريش في المعركة بما لم يشهد لها تاريخ المسلمين مثيلاً لها بعد ذلك، في عدد من استؤصل من قادتهم، لا سيّما من بني عبد الدار وبني المغيرة، فقُتل من المشركين سبعون، ومثلهم أسرى، فاجتمعت على قريش المصيبتان؛ القتل والهزيمة: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أو يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾.
كانت معركة ضروساً، ما كان أحد أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى العدو، وبقية الشجعان يلوذون به. يقول الإمام علي: "لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً.. كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله، فما كان أحد أقرب إلى العدو منه".
كان النبي أشدّ ما يكون حرصاً على مقتل أبي جهل، لأنه الأشد على النبي تحريضاً وعدواناً حتى لقبه بفرعون الأمة، لذلك قال صلى الله عليه وآله: «اللهم لا يفلتنّ فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام»، بل هو في معيار النبي أشدّ من فرعون، إذ التفت إليه بعد مقتله، وقال: "إن هذا أعتى على الله من فرعون، وإن فرعون لما أيقن بالهلاك وحّد الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى".!
هكذا مضى يوم الفرقان في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة، مكللاً بأقصوصة السماء، إذ نزلت سورة الأنفال وقد طغت على كثير من آياتها، قصة بدر ومنازلتها الكبرى.