ليون هادار
ترجمة: أنيس الصفار
تحدى الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" النظام الدولي لحقبة ما بعد الحرب الباردة حين أكد ان على حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط أن يتولوا مصالحهم الستراتيجية بأنفسهم بدلاً من الاعتماد على واشنطن لمعالجة شؤون أمنهم.
رسالة الرئيس ترامب واضحة، فهي تقول: "الولايات المتحدة لن تعود معنية بعد الان بمهمة حل الصراعات التاريخية لأوروبا الشرقية والشرق الأوسط. أما مصالح أميركا الجيوستراتيجية الجوهرية فموقعها مناطق شرق آسيا، حيث تواجه الولايات المتحدة التهديد العالمي الرئيسي لها، وهو الصين.
أعلن الرئيس ترامب ايضاً انه قد اتفق مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" على اجراء محادثات من شأنها ان تضع نهاية لحرب أوكرانيا. كذلك أخبر وزير الدفاع "بيت هيغسيث" نظرائه الأوروبيين أن واشنطن قد وافقت على بعض مطالب روسيا الرئيسية، واصفاً رغبة أوكرانيا باستعادة وحدة اراضيها بأنها "هدف خيالي" وأن عضوية الناتو لا مكان لها بالنسبة لأوكرانيا.
أحدثت تلك التعليقات صدمة لأوكرانيا وحلفاء أميركا الأوروبيين الذين عبروا عن قلقهم وهم يرون استعداد واشنطن لاسترضاء موسكو بينما المسؤولون الروس والأميركيون يتحضرون للتفاوض بشأن مستقبل أوكرانيا في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية دون ان تكون لهم ايضاً مشاركة خلال المحادثات.
قبل ذلك بفترة بعث الرئيس ترامب موجات صدمة مماثلة إلى الشرق الأوسط خلال زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي "بنيامين نتانياهو" لواشنطن حين اقترح خطة لنقل مليوني فلسطيني من غزة الى الأردن ومصر.
تعد فكرة إعادة ترحيل ملايين الفلسطينيين إلى الاردن ومصر تهديداً وجودياً بالنسبة لهذين البلدين، وقد رفضتها الحكومة السعودية وحكومات عربية أخرى.
كانت الرسالة التي بعث بها الرئيس ترامب الى حلفائه العرب مشابهة تماماً لتلك التي تلقاها شركاؤه لدى حلف شمال الأطلسي، وهي: "لقد أزف الوقت لأن تتولوا بأنفسكم الحفاظ على الاستقرار والسلام في جواركم الجغرافي."
ماذا بعد؟
يترتب على هذا كله ان ترفع ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والأعضاء الاخرين لدى حلف شمال الأطلسي مستوى مساهماتهم لتطوير الناتو وزيادة إنفاقهم الدفاعي بوجه عام، وهذا سيمكن الأميركيين من تحويل اهتمامهم ومواردهم من المحيط الأطلسي الى المحيط الهادئ.
من جهة اخرى، سيتعين على الدول العربية ان تتقدم بخطة للمساعدة على انهاء الحرب على غزة وإعادة إعمار المنطقة ونشر قوات سلام فيها لحفظ النظام. ما لم يحصل ذلك فقد تعطي الولايات المتحدة اسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة حملتها لتدمير حركة حماس وربما إجبار الفلسطينيين على النزوح بالقوة.
من ناحية أخرى ليس لحلفاء أميركا لدى حلف شمال الأطلسي أو لشركائها العرب ان يفاجأوا بقرارات الرئيس ترامب الأخيرة التي تعكس من أوجه عديدة ما طرأ من تغيرات على الجيوستراتيجية الأميركية. فالرغبة بالحصول على مزيد من المساعدة من الأوروبيين وفظ المشاركة مع الشرق الأوسط أفكار اكتسبت موطئ قدم حتى من قبل أن يطرح ملياردير العقارات السابق أجندة "أميركا أولاً" بوقت طويل .. ذلك ان ما يدعى بالتحول من الشرق الأوسط صوب آسيا كان قد ابتدأ خلال عهد إدارة الرئيس "باراك أوباما" رداً على النهوض الاقتصادي والعسكري للصين والحاجة لحماية المصالح الأميركية عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
علاوة على هذا سلّط الإخفاقان من حربي العراق وأفغانستان، وفشل محاولات تغيير الأنظمة وتعزيز الديمقراطية، وما سمّيت "عمليات السلام" العديدة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، ضغوطاً على المستويين الجماهيري والنخبوي للشروع بعملية فك الارتباط بتلك المناطق والخروج التدريجي منها. فأي تدخلات عسكرية أميركية جديدة في الشرق الأوسط لم تعد تحظى اليوم بأي دعم من قبل واشنطن.
كما تحولت الفكرة القائلة بأن الأوروبيين لا ينفقون ما يكفي لمتطلبات الدفاع الى معتقد ثابت بالنسبة لواشنطن منذ سنوات.
وضع النقاط على الحروف
خلال تموز 2011 بلغ الأمر بوزير الدفاع الأميركي آنذاك، روبرت غيتس، حد توجيه خطاب قاسٍ الى بعض أقرب حلفاء أميركا بقوله ان الولايات المتحدة لن يسعها الاستمرار بإداء دور الشريك الأثقل وزناً في النظام العسكري الذي بقي يحكم علاقة الولايات المتحدة بأوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بعد ذلك مضى غيتس بإدانته لتخفيض الانفاق الدفاعي الأوروبي قائلاً ان الولايات المتحدة قد سئمت التكفل بمهمات القتال لصالح "من لا يريدون تحمل نصيبهم من المخاطر والنفقات"، على حد تعبيره.
قال غيتس: "الحقيقة الجارحة هي ان هناك انحساراً بالرغبة والصبر لدى الكونغرس الأميركي – بل لدى الجسم السياسي الأميركي عموماً – لإنفاق مزيد من الأموال الثمينة بالنيابة عن دول لا تبدو راغبة بتخصيص الموارد اللازمة لجعل انفسها شريكاً جاداً مستعداً للدفاع عن نفسه." كان هذا خلال العام 2011.
كان الأوروبيون فعلا يواجهون احتمال الاضطرار يوماً للوفاء بالتزاماتهم الدفاعية منذ انتهاء الحرب الباردة. اما الان، وإذ يدور الحديث عن تقليص الولايات المتحدة حضورها لدى أوروبا بدرجة كبيرة، فقد انطلقت اجراس الخطر تدق في لندن وباريس وبروكسل وبرلين .. هناك يتساءل المسؤولون: هل ستهب الولايات المتحدة لمساعدتهم يا ترى إذا ما تعرضوا لتهديد وجودي من قبل روسيا؟
بل ان بعض الدول الواقعة على خط المواجهة الواقعية، مثل بولندا ودول البلطيق، قد زادت من انفاقها الدفاعي بالفعل واستعدت لحرب محتملة مع روسيا، بينما بقيت حكومات أوروبا الغربية تركز غالباً على تغييرات تراكمية صغيرة هنا أو هناك.
أما الشرق الأوسط فتأمل واشنطن أن ترغم ضغوطها الدول العربية على "فعل شيء" بشأن غزة. يتوقع المسؤولون الأميركيون ان يؤدي التحالف الستراتيجي بين اسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى الى احتواء التهديد الإيراني بشكل فعال وبذلك تنتفي الحاجة الى اي تدخلات عسكرية مستقبلاً في المنطقة.
استجابت بعض الدول العربية لضغوط الرئيس ترامب بطرح خطط لمستقبل غزة في مرحلة ما بعد حماس واعطاء التزامات بتوفير المعونات الاقتصادية والمساعدة العسكرية لقيام مجلس او كتلة تتولى الحكم الذاتي في غزة. فإن لم يكونوا راغبين في خطة ترامب بشأن غزة قد يكون الوقت أزف إذن لتقديم الأموال ووضعها في مكانها الصحيح.
عن مجلة
"ذي ناشنال إنتريست" الأميركية