نجم الشيخ داغر
وانا اتأمل في ذكرى الجرح الأليم الذي أصيب به امير المتقين والمساكين علي بن أبي طالب عليه السلام في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك وهو ساجد لربه في مسجد الكوفة المعظم، هزني من الأعماق ما سمعته وشاهدته في وسائل التواصل الاجتماعي من بعض السوريات والسوريين عبر مقاطع فيديو مشينة وهم يسخرون من قول منسوب له عليه السلام مفاده "انثروا القمح على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين"، الذي قابلوه بالقول "اقتلوا الفئة الفلانية وأرموا جثثها للكلاب كي لا يقال جاعت الكلاب في حكم بني إمية"، في إشارة لحكم الجولاني الحالي، فانطبق عليهم بشكل صارخ قول الشاعر ابن الصيفي :
ملكنا فكان العفو منا سجية * فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما * غدونا على الأسرى نعفو ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا * وكل إناء بالذي فيه ينضح
ثم عرجت بفكري إلى المدة التي تولى به امير الحكماء والعارفين الحكم في بلاد المسلمين، وكيف تعامل مع رعيته، غنيّهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، اسودهم وابيضهم، فكان بحق الأب الشفيق لمن اتقى ربه وتقبل عدله .
كان عليه السلام رحيما برعيته حريصا على الترفق بهم وحفظ حقوقهم وكراماتهم، شديدا في الوقت نفسه مع عماله في بلاد المسلمين، فقد جاء في كتابه لواليه على البصرة عثمان ابن حنيف بعد وصايا كثيرة "ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أن أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى! أو أن أكون كما قال القائل :وحسبك داء أن تبيت ببطنه * وحولك أكباد تحن إلى القد .
أأقنع من نفسي بأن يقال [لي]: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات.."، فصرخت في سري وبكيت من كل قلبي، تحسرا على فداحة فقد مثل هذا الإمام والقائد الفذ، الذي حوى جميع الكمالات حتى قال القائل اشتباها أنت أنت، وتذكرت قول سلمان المحمدي بهذا الشأن معاتبا المسلمين "أما والله لو وليتموها عليا لأكلتم من فوقكم، ومن تحت أرجلكم..
يحيط هذا الإمام العظيم نفسه بقوانين صارمة، يجدها واجبة عليه، لمنزلته على رأس قيادة المسلمين، وهو الذي تعهد امامهم حين تجمعوا عليه من كل حدب وصوب رغبة في مبايعته بالخلافة الظاهرية " ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه"، حتى أبى الوصول إلى حد الشبع، خشية من أن يكون احد رعيته في أطراف المدن بات جائعا، "ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع"، ويرفض كذلك التنعم بأي ملبوس او مركوب أو أي من متاع هذه الدنيا "أأقنع من نفسي بأن يقال [لي]: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش"، لا لشيء ولا خشية من اقتراف محرم وإنما محبة وشفقة وحرصا على رعيته، وأن يكون أسوة لفقيرهم وقدوة لموسرهم .
ثم يجنح بنا عليه السلام في عالمه الملكوتي ويسمو بأرواحنا في عالم النور ليضع أيدينا على أس المشكلة ومربط البلاء ليقول هذه هي آفتكم، طالبا منا التخلي عنها وتطليقها ثلاثا كما فعل هو فداه انفسنا، " إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللتُ من مخالبك وأفلتُ من حبائلك، واجتنبتُ الذهاب في مداحضك، أين القرون الذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود "، ثم يدعونا عليه آلاف التحية والسلام إلى التحليق معه في عالم الطهر والكمالات الروحية قائلا : " وأيم الله - يمينا أستثني فيها بمشية الله - لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما وتقنع بالملح مأدوما ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها".
هذه قبسات من نور علي أمير المؤمنين عليه السلام وما علق بذهني ووعى فكري من ذرات كراماته التي ملأت الخافقين .