جواد علي كسار
ليلة القدر كما في الحديث الشريف، هي قلب شهر رمضان، وهي دائمة مستمرّة إلى يوم القيامة، ولو رُفعت لرُفع القرآن.
تقع ليلة القدر بين طرفين؛ ملائكة الله التي تتنزّل من عند الله بالأمر الحكيم: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4ـ 5) ومن تتنزّل عليه الملائكة، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته، وولاة الأمر من بعده، كما في هذا النص للإمام أمير المؤمنين في كلام له إلى ابن عباس: «إن ليلة القدر في كلّ سنة، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمرُ ولاة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال ابن عباس: من هُم، قال الإمام: أنا وأحد عشر من صلبي»؛ ومن دون هاتين الركيزتين، لا يمكن تصوّر ليلة القدر قطّ.
ربما كان أفضل تشبيه من الثقافة المعاصرة لليلة القدر؛ أنها تمثل الموازنة الوجودية الهدائية؛ فكما للدول والشركات والهيئات والمؤسّسات موازنات تضبط عملها، كذلك الحال للأرض التي نعيش عليها، فإن لله ربّ العالمين موازنة وتقدير في خلقه وعباده أجمعين، يرسل بها عبر ملائكته في ليلة القدر، إلى من يتولى أمره بعد النبي، إذ لابدّ من وجود صاحب للأمر يتولاه، هو القادر دون غيره أن تنزل عليه الملائكة بمقادير الربّ إلى العباد، له وحده قابلية استقبال الملائكة بتقدير الله من كلّ أمرٍ حكيم، دون بقية العباد.
لذا جاء في الحديث الشريف عن قوله سبحانه: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾: "يُقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل؛ خير وشر، وطاعة ومعصية، وأجل ورزق، فما قُدّر في تلك السنة وقُضي فهو المحتوم، ولله فيه المشيئة".
وهذا أحدهم يسأل عن معنى ليلة القدر والمغزى الوظيفي الذي تنهض به في حياة المسلمين كما غيرهم، فيجيبه الإمام كاشفاً عن دورها الهدائي الوجودي، بقوله: «تنزل فيها الملائكة والكَتَبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون في أمر السنة، وما يُصيبُ العباد». كما في حديث آخر أيضاً: "إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكَتَبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تبارك وتعإلى في تلك السنة".
لذلك دأب النبي وأهل البيت والعباد والأخيار في أمة المصطفى ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومنا هذا؛ دأبوا على المثابرة والجدّ والاجتهاد، في الرقابة والعبادة، إذ كان الإمام جعفر الصادق فيما وصلنا من سيرته، يوصي ولده إذا دخل شهر رمضان، بقوله: "فأجهدوا أنفسكم، فإن فيه تُقسّم الأرزاق، وتُكتب الآجال، وفيه يُكتب وفد الله الذين يفدون إليه، وفيه ليلة العمل فيها خير من العمل في ألف شهر".
في مصدر آخر وواقعة جديدة، يحذّر الإمام الصادق من النوم في الليلة المرجوّة أن تكون ليلة القدر، وهو يقول: "من نام في الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمرٍ حكيم، لم يحجّ تلك السنة، وهي ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، لأن فيها يُكتب وفد الحاج، وفيها تُكتب الأرزاق والآجال، وما يكون من السنة إلى السنة".
هذه المنظومة من الروايات التفسيرية التي تدور حول سورة القدر والآيات الأوائل من سورة الدخان، تزوّدنا معرفياً برؤية قرآنية حديثية متماسكة، عن ليلة القدر وأنها تؤدّي وظيفياً في شبكة الوجود، دور الموازنة الإلهية الربانية التي تتنزّل بها الملائكة عن ربها، إلى صاحب الأمر، فيها مقادير الله وما يدور على الأرض ويحصل للعباد، من السنة إلى السنة.