مشاهدُ علويَّة في التعامل مع حكام الولايات

جواد علي كسار
هذا عامل أمير المؤمنين وحاكم أذربيجان قد قَدِمَ إليه في الكوفة يحمل أموالها، وقد صادف ذلك في شهر رمضان. كان من عادات الإمام أن يأمر كلّ يوم بنحر جزور (ذبيحة من الإبل). فلما صلى بالناس صلاة المغرب تولى بنفسه قسمة اللحم والثريد على الفقراء وسائر أهل المسجد، وكان لا يعود إلى منزله لتناول الإفطار، إلا بعد الفراغ من الصلاتين وقسمة الطعام بيده.
التفت إلى عامله الضيف وقال له: خذ نصيباً من هذا اللحم والثريد وأفطر عليه، فردّ حاكم أذربيجان: أنا أفطر عند أمير المؤمنين، وكان يظنّ في نفسه أنه يصيب طعاماً خيراً من طعام المسجد!
لما فرغ الإمام ورجع إلى المنزل ومعه عامله على أذربيجان، أُتي له بقرصٍ من خبز مأخوذ من الطحين غير المنخول، وشيء من السويق (نوع من الشراب) وقال للعامل: كُل، وأخذ هو يأكل. فقال العامل: إني تركتُ لحم الجزور والثريد طمعاً في شيءٍ أجود منه! فردّ عليه الإمام: أما تعلم أن المتولي لأمور الناس لا ينبغي أن يكون طعامه خيراً من طعامهم!
مائدة أخرى!
يذكر الأحنف بن قيس: دخلتُ على معاوية فقدّم إليّ من الحلو والحامض ما كثُر تعجبي منه، ثمّ قال: قدّموا ذاك اللون، فقدّموا لوناً ما أدري ما هو، فسألتُ: ما هذا؟ أجاب معاوية: مصارين البطّ محشوّة بالمخّ ودهن الفستق، قد ذُرّ عليه السكر.
قال الأحنف: فبكيتُ، فسأله معاوية: ما يُبكيك؟ أجاب: لله درّ ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمح به أنت ولا غيرك، استوضح معاوية: كيف؟ قال الأحنف: دخلتُ عليه ليلة عند إفطاره، فقال لي: قم فتعشَّ مع الحسن والحسين. ثمّ قام إلى الصلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه، فأخرج منه شعيراً مطحوناً، ثمّ ختمه (أعاد غلقه) فقلتُ: يا أمير المؤمنين، لم أعهدك بخيلاً، فكيف ختمت على هذا الشعير؟
أجاب الإمام: لم أختمه بُخلاً، ولكن خفتُ أن يبسّه [يخلطه] الحسن والحسين بسمنٍ أو إهاله (الدهن)! سأله الأحنف: أحرام هو؟ ردّ الإمام: لا، ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدّوا أنفسهم مع ضعفة الناس، لئلا يُطغي الفقيرَ فقرُه.
فقال معاوية معقّباً: ذكرت من لا يُنكر فضله.
حصير علي!
يقول سويد بن غفلة: دخلتُ على علي يوماً وليس في داره سوى حصير رثّ، وهو جالس عليه، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أنت ملك المسلمين، والحاكم عليهم وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود، وليس في بيتك سوى هذا الحصير شيء؟
أجاب الإمام: يا سويد، إن اللبيب لا يتأثّث في دار النقلة، وأما دار المقامة، قد نقلنا إليها متاعنا، ونحن منقلبون إليها عن قريب.
قال سويد: فأبكاني والله كلامه.
هذا رجل آخر من الأسماء المعروفة في محيط الإمام، قد لُبّس عليه، اسمه عاصم بن زياد، إذ بادر إلى لبس العباء واعتزال الناس، وأهمل أسرته وزوجته وعياله، فشكاه أخوه الربيع بن زياد، إلى الإمام أمير المؤمنين، بقوله: إنه قد غمّ أهله، وأحزن ولده بذلك، فقال الإمام: عليّ بعاصم بن زياد، فجيء به، فلما رآه عبس في وجهه، وقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك!
ثمّ أوضح الإمام حدود موقفه هذا لعاصم، من القرآن وآياته، وختم بقوله: فبالله، لابتذال نِعَمِ الله بالفعال أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال، وقد قال الله عزّ وجل: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى: 11).
أخرج عاصم آخر سهم من كنانته، أمام هذا الموقف الردعي الرافض لحالته المتزهّدة، ودافع عن نفسه، بقوله: يا أمير المؤمنين، فعلامَ اقتصرتَ في مطعمك على الجشوبة، وفي ملبسك على الخشونة؟
ردّ عليه الإمام: ويحك، إن الله عز وجل فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس؛ كي لا يتبيّغ [لا يهيج] بالفقير فقره.
حملة إعادة الأموال
أمام هذه الصور وما تستبطنه من فلسفة في أن يعيش الحاكم مستوى من المعيشة، يتماشى مع الحدّ الأدنى لمواطنيه ورعيته، شنّ الإمام حرباً لا هوادة فيها ضدّ بعض ولاته ممن ثبت عليه الرشوة ومحابة القرابة في المناصب والأموال، أو ضرب آخر من ضروب الفساد المتدثّر بعنوان الهدية وما شابه، حتى بلغ ذلك قدراً لم نعهده من القسوة عليهم، توبيخاً ومحاسبةً وعزلاً وسعياً حثيثاً لاسترداد الأموال، وقد خاطبهم بأسوأ النعوت، حتى وصف بعضهم بالبهيمة، بل وأن البهيمة أفضل منه، وقال عن آخر بعد خيانته للأمة بالمال، بأن قيمته لم تعد تعدل عنده «شسع» نعل، وكان يؤكد في حملاته لاستعادة الأموال المنهوبة، بأن هذه الأموال لدى الولاة، هي أموال الناس، وليست مالاً خاصاً بالحكام، أو إرثاً ورثوه، حتى يتصرفوا به كيفما يريدون.
بدأ الإمام الإعلان من فوره عن سياسته المالية هذه، ففي اليوم الثاني من ولايته خطب في المدينة النبوية بما يشبه إعلان مبادئ الحكم وبرنامجه، فكان مما ذكره هو القطيعة مع نهج أسلافه في تقسيم الأموال أو توزيع الثروات والأراضي، وأخذ قراره الحاسم في استردادها جميعاً، لأن: «الحق القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدته وقد تُزوّج به النساء، وفُرّق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق».
وهكذا فعل، إذ لم يصبر عليه السلام عن المال المهدور من الحاكمين قبله، وكان ذلك في طليعة أسباب نقمة بعض النخب الدينية والسياسية عليه، وما تلاها من حروب داخلية أشعلوها ضدّه.
أقدِم مع المال
«كَسكَر» مدينة في العراق تقع ما بين الكوفة والبصرة قريبة إلى الكوت، حاكمها قدامة بن عجلان، بلغ الإمام عنه عدم دقته في التصرّف بالمال، فكتب إليه يستعجل قدومه إليه مع المال: «أما بعد، فاحمل ما قبلك من مال الله، فإنه فيء للمسلمين، لستَ بأوفر حظاً فيه من رجل منهم، ولا تحسبنّ يا ابن أمّ قدامة أن مال كَسكَر مُباح لك كمالٍ ورثته عن أبيك وأمك، فعجّل حمله وأعجل في الإقبال إلينا، إن شاء الله».
هدم داره!
شغل مصقلة بن هبيرة الولاية على بعض توابع الأهواز، وأطلق يده في التصرّف بالأموال، بذلاً على المقربين منه، وذوي قرابته من قبيلة بكر بن وائل، فبلغ ذلك الإمام أمير المؤمنين، فكتب بدءاً: «بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أتيت شيئاً إدّاً [فظيعاً] بلغني أنك تقسّم فيء المسلمين فيمن اعتفاك وتغشّاك من أعراب بكر بن وائل!».
ثمّ كتب إليه يطالبه بالمال المهدور، ويستعجله بذلك: «أما بعد، فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأعظم الغشّ على أهل المصر غشّ الإمام، وعندك من حقّ المسلمين خمسمائة ألف، فابعث بها ساعة يأتيك رسولي؛ وإلا فأقبِل حين تنظر كتابي، فإني قد تقدّمت إلى رسولي إليك ألا يدعك أن تُقيم ساعة واحدة بعد قدومه عليك، إلا أن تبعث بالمال».
أمام هذا الحصار، وتخيير الإمام له بين بعث المال أو أن يقدِم على الإمام بنفسه وذنبه، لم يجد مصقلة من موقف واجه به الإمام، إلا الهروب إلى معاوية في الشام. وقد فعل، ليجمع بين الخيانة والهروب، فلما بلغ الإمام ما فعله مصقله، قال: «ماله ترّحه الله [أهلكه] فعل فعل السيّد، وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر». ثمّ سار إلى داره فهدمها.
هبات ونزوات!
هذا المنذر بن الجارود، وقد ولاه الإمام اصطخر من أقدم مدن بلاد فارس، لصلاح والده بشر بن عمرو المعروف بالجارود، وكان من صحابة أمير المؤمنين، وأيضاً لحُسن ظاهره. لكنه خيّب آمال الإمام عندما استغرق باللهو والصيد، والبذخ وترف المعيشة، يفعل ذلك كله من مال الدولة، ويبسط يده في الإنفاق منه على قرابته وقومه.
كتب إليه الإمام بعد أن بلغه حاله: «وإن صلاح أبيك غرّني منك، وظننتُ أنك تتبع هديه وفعله، فإذا أنت فيما رُقّي إليّ عنك لا تدع الانقياد لهواك وإن أزرى ذلك بدينك. بلغني أنك تدع عملك كثيراً، وتخرج لاهياً متنزّهاً متصيّداً، وأنك قد بسطت يدك في مال الله لمن أتاك من أعراب قومك، كأنه تراثك عن أبيك وأمّك».
ثمّ ينهال عليه بالتقريع الشديد بما لا مثيل له قطّ في نصوص أمير المؤمنين، وهو يوبخه ويهينه، بالقول: «وإني أقسم بالله لئن كان ذلك حقاً، لجملُ أهلك وشسعُ نعلك خير منك، وأن اللعب واللهو لا يرضاهما الله، وخيانة المسلمين وتضييع أعمالهم مما يُسخط ربّك، ومن كان كذلك فليس بأهلٍ لأن يُسدّ به الثغر، ويُجبى به الفيء، ويؤتمن على مال المسلمين، فأقبِل حين يصل كتابي هذا إليك».
خائن السوق!
لما ثبت عند الإمام خيانة ابن هرمة، وقد كان مشرفاً على سوق الأهواز، كتب إلى عامله رفاعة بن شداد قاضيه على الأهواز: «إذا قرأت كتابي فنحِّ ابن هرمة عن السوق، وأوقفه للناس، واسجنه ونادِ عليه، واكتب إلى أهل عملك تَعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط، فتهلك عند الله، وأعزِلُك أخبث عزلة».
أضاف: «فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن، واضربه خمسة وثلاثين سوطاً، وطف به إلى الأسواق، فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهده، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه [من الأموال] ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً [مشتوماً]» في الكتاب تفاصيل مذهلة عن معاقبة هذا الخائن على عمله في السوق، يوصي بها الإمام تشديد العقوبة عليه، وحرمانه وهو في السجن من التواصل مع من يمكن أن يتواطأ معهم، بل وحرمانه من الخروج إلى صحن السجن، إلا إذا كانت حياته في خطر، كما شدّد الإمام تعزيره بالضرب مجدّداً، حتى يُعيد ما كان قد أخذه من أموال الناس، ثمّ يختم كتابه إلى عامله، بقوله: «واكتب إليّ بما فعلت في السوق، ومن اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه».
قصة الهدايا!
كان التذرّع بـ«الهدية» ولم يزل أحد وسائل الفاسدين في تبرير رشواتهم وأخذهم المال الحرام. فهذا ضبيعة بن زهير الأسدي، وقد استعمله الإمام، فلما قضى عمله قدِم إلى الإمام معه جراب يحمله فيه مال، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قوماً كانوا يهدون لي حتى اجتمع منه مال، فها هو ذا، فإن كان لي حلالاً أكلته، وإن كان غير ذلك فقد أتيتك به، فقال الإمام: «لو أمسكته لكان غلولاً [سرقة وخيانة] فقبضه منه وجعله في بيت المال».
عن الهدية هذه يشتهر كلام الأمير في خطبة مشهودة له من خطب «نهج البلاغة» يقول فيها: «وأعجبُ من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتُها، كأنما عُجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصِلة، أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت! فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية، فقلتُ: هبلتك الهبول! أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمتخبّط أنت أم ذو جِنّة، أم تهجر؟».
ثمّ قال عليه السلام في حكمة بالغة للساسة ورجالها من بعده: «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقةٍ في فمّ جرادة تقضمها».
سلامٌ على عليّ يوم ولد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حياً، شاهداً شهيداً على هذه الأمة والإنسانية جمعاء.