كتب رئيس التحرير:
لكلِّ باطنٍ ظاهرٌ يُماثله ولكلِّ معنى مبنى. هذا ثابتٌ في الفلسفة وفي العرفان الإسلاميِّ. فلا يمكن تصوّر معنى ما غُفلاً من دون المباني الماديَّة الدالّة عليه والمشيرة له والمؤدية إليه. وفي ترتيب الأسماء الحسنى مثلاً كان يُنظر إلى الاسمين الإلهيين "الظاهر ـ الباطن" بوصفهما اسماً واحداً لا اثنين، لتلازمهما وعدم قدرتنا على تصوّر أحدهما بمنأى عن الآخر.
هذه الأيام ذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليّ، وكلّما فُتحتْ سيرته "عليه السلام" نكون أمام نسختين منه ظاهرة وباطنة، وفهمهما معاً يحتاج إلى قارئٍ مبصرٍ ذي عينين.
عليٌّ ـ المعنى يأبى أنْ تتصوّره الأفهام، فهو في الأفق الذي عبَّر عنه القرآنُ الكريم بالأفق الأعلى، وقد أوجز عليٌّ الأمر في إحدى خطبه بقوله البليغ المحيّر: "أنا المعنى الذي لا يقعُ عليه اسمٌ ولا شِبْه". فما من وصفٍ ولا تشبيهٍ يمكن أنْ نشير بهما إلى هذه الجهة التي يقف فيها عليٌّ بوصفه وجه الله الذي إليه تتوجّه الوجوه.
لهذا انشغلنا مطوّلاً بعليّ ـ المبنى، بعليّ الظاهر المخلوق من ترابٍ، لكنه "أبو تراب"، فهذه كلُّ حصتنا من فهم عليّ واستيعابه ودراسته والنظر إليه. وحتى في هذه النسخة الظاهريَّة من عليّ لا تنعدم حيرتنا بل تتأكّد، ولا يزول عجبنا بل يترسَّخ، إذ إنَّ من يجول بنظره في الرهانات الأخلاقيَّة والإنسانيَّة الكبرى ودروس العدالة والزهد والشجاعة والعبادة والإيمان سيجد أنَّ لعليّ "عليه السلام" حيزاً لم يشغلْه أحدٌ سواه.
وحين تريد أنْ تتصوّر إنساناً باطنه حيرة للعقول والقلوب، وظاهره هدى للمكارم فلن تقع إلّا على عليٍّ الذي لا يقع عليه اسم
ولا شبه.