بغدادنا أنيقة عندما تكون خضراء

ريبورتاج 2025/03/23
...

  ذو الفقار يوسف


يستلقي رضوان على وسادته في آخر الليل، يزاول أحلام اليقظة التي اعتاد عليها في آخر يومه قبل أن يخلد إلى النوم، هذه المرة كانت وديان سويسرا وسهولها هي ما تملكت خياله، فهو قد رآها في التلفاز بأحد البرامج الوثائقية، مساحات خضراء لا نهاية لها، أكواخ قد غطتها الأعشاب بطريقة ساحرة، وأنهر صغيرة تخترق هذه المساحات كأنها جدائل سماوية، أبقار وهي ترعى الحشائش في تلك المساحات وهي مفرطة الصحة كأنها تؤكد لنا سعادتها، البشر أيضاً هناك، كانوا يبتسمون باستمرار، ويتنفسون بشكل صحيح، فالهواء هناك مريح.

وبينما يستمر رضوان بأحلامه، يحاول أن يجد واقعه بحلمه، بوطنه، بالأحياء التي يسكنها هو وأسرته، وأن يعيشوا كالبشر في تلك العوالم، فأين السبيل إلى ذلك؟ الكثير من التساؤلات  رافقت رضوان في رحلته التخيلية، كيف نستطيع أن نجعل مدينتنا خضراء؟ ما العمل لكي يلعب أطفالنا على العشب؟ أين يستطيع والداي المسنان الذهاب لكي يتنفسا هواء نظيفاً؟.


غابات بغداد المستدامة

يحاول الخبير الاقتصادي والبيئي ضياء المحسن أن يجيب عن تساؤلات رضوان، إذ يؤكد بأن تحويل العراق إلى بلد أخضر يتطلب تضافر جهود كبيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بمكافحة التصحر وزيادة المساحات الخضراء، من حيث زيادة حملات تشجير واسعة النطاق وإدارة مستدامة للموارد المائية، وكذلك مكافحة تدهور الأراضي، بالإضافة إلى إنشاء محميات طبيعية، مع عدم إغفال التحول إلى الطاقة المتجددة.

ويشير المحسن لـ (الصباح)، بأنه "لا يجب أن ننسى ضرورة تشجيع مشاركة المجتمع المدني وتعاون المجتمع الدولي بالاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية، وجذب الاستثمارات الأجنبية"، مبيناً، أن "هناك مشاريع مهمة في العراق منها، مشروع غابات بغداد المستدامة والذي يمثل واحداً من المشاريع المهمة لزيادة المساحات الخضراء في العراق".

ويكمل الخبير الاقتصادي حديثه بأن "الحد من التلوث في العراق يتطلب أيضاً جهودًا متضافرة من الحكومة والمجتمع المدني والأفراد، من قبيل مكافحة تلوث الهواء والتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، وتشجيع استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بالإضافة إلى تحسين كفاءة محطات توليد الطاقة الكهربائية، والحد من حرق الوقود الأحفوري، والعمل على تشجيع استخدام السيارات الكهربائية والهجينة، وتطبيق معايير صارمة للانبعاثات من المركبات، مع ضرورة مراقبة الانبعاثات من المصانع ومعاقبة المخالفين"، مؤكداً أنه "بذلك فقط يمكن للعراق أن يحقق تقدمًا كبيرًا في الحد من التلوث وحماية البيئة".


للمواطن دور مهم

ويوضح المحسن، بأن "زيادة المساحات الخضراء تعد ضرورة حيوية لتحسين البيئة والصحة العامة، ويتطلب تحقيق هذا الهدف تضافر جهود الحكومة والمواطنين على حد سواء"، منوهاً بأنه "بما يتعلق بالدور الحكومي فنجد ضرورة وضع السياسات والتشريعات المتعلقة بحماية المساحات الخضراء القائمة، ومنع التعدي عليها، وتخصيص ميزانيات لدعم مشاريع التشجير وزيادة المساحات الخضراء، ناهيك عن تسهيل الإجراءات للحصول على تراخيص زراعة الأشجار وإنشاء الحدائق، وأيضاً زراعة الأشجار المناسبة للمناخ المحلي والتي تتحمل الظروف البيئية القاسية".

وينوه بأن "دور المواطن يكون من خلال زراعة الأشجار والنباتات في الحدائق المنزلية والشوارع المحيطة، والمشاركة في حملات التشجير التطوعية، بالإضافة إلى المحافظة على المساحات الخضراء من خلال التعاون والتنسيق بين الحكومة والمواطنين، ويمكن بذلك تحقيق تقدم كبير في زيادة المساحات الخضراء وتحسين البيئة في العراق".

ويختتم المحسن حديثه، بأن "القطاع الزراعي يمكنه العمل على تعزيز الاقتصاد العراقي بشكل كبير من خلال زيادة المساحات الخضراء، وهذا يحصل عندما يتم توفير الأمن الغذائي من خلال زيادة الأراضي الصالحة للزراعة، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاج الزراعي وتوفير الغذاء للسكان، وبالتالي يكون هناك تنويع مصادر الدخل، فضلاً عن تقليل الاعتماد على النفط، ويمكن للزراعة أن تصبح مصدرًا رئيسًا للدخل القومي، ولا ننسى قدرة القطاع الزراعي على خلق فرص عمل أكبر من بقية القطاعات".


مليون شجرة

المتحدث الرسمي باسم أمانة بغداد عدي الجنديل يؤكد بأن "للمواطن دوراً كبيراً بزيادة المساحة الخضراء داخل العاصمة بغداد، ومن هذا المبدأ فإن أمانة بغداد شاركت بالكثير من فعاليات منظمات المجتمع المدني لطلبة المدارس والجامعات في حملاتها الزراعية".

ويضيف الجنديل لـ (الصباح)، أن "أمانة بغداد تزرع في المواسم الزراعية الربيعية والخريفية أعداداً كبيرة من الأشجار"، مبيناً أنه "في الموسم الخريفي الماضي تمت زراعة 167 ألف شجرة في العاصمة بغداد، والآن يتم الاستعداد والتهيئة للموسم الربيعي".

ويتابع، أن "هناك خططاً لأمانة بغداد باشراك المواطن ومنظمات المجتمع المدني وطلبة المدارس والجامعات وجميع الفعاليات للمشاركة في عملية الزراعة، ليكونوا جزءاً من هذه العملية من خلال الاهتمام بالأشجار وعملية التشجير، لأن الأمانة تشجع المواطنين على عملية الزراعة من خلال توفير أعداد كبيرة من هذه الأشجار من قبل الأمانة بشكل مجاني لتشجيع الاهتمام بالزراعة وزيادة المساحات الخضراء داخل العاصمة بغداد". مؤكداً أن هناك مشاريع استراتيجية تعمل عليها أمانة بغداد في زيادة المساحات الخضراء منها الحزام الأخضر في منطقة الدهنة، حيث يعد هذا المشروع كبيراً جداً ووصلت به إلى مراحل متقدمة جداً، حيث يعتمد هذا المشروع على مياه الصرف الصحي من خلال تحويلها إلى مياه صالحة للسقي عبر إنشاء أكبر محطة ضمن قاطع بلدية مدينة الشعلة، حيث يتم بعدها نقل المياه عبر شبكة أنابيب يصل طولها إلى 7 كيلومترات تصل إلى المنطقة المستهدفة وهي منطقة الدهنة، وتتم عملية سقي هذه المزروعات بتقنيات حديثة ومتطورة، إذ تكون المرحلة الأولى هي زراعة 250 ألف شجرة معمرة في هذه المنطقة".

ويختتم الجنديل، أن "هناك أيضاً مشروعاً استثمارياً كبيراً وهو غابات بغداد التي انطلقت الأعمال بها قبل فترة قصيرة وهو مشروع كبير وواعد في زيادة المساحات الخضراء وزراعة الأشجار المعمرة، ومن المؤمل أن تتم زراعة مليون شجرة في هذا المشروع لتحسين بيئة العاصمة وتغيير الواقع المناخي داخلها".


حلم الغابة الغناء

يقول الخبير الاقتصادي دريد الشاكر العنزي إن هناك مشكلة كبيرة وهي عدم إيجاد من يحدد المناطق الخضراء أو مفهومها، إذ إن كل الذي نعرفه بأنها خضراء، فأين تكون؟ وأين تقع؟ وهناك العشرات من الأسئلة في هذا الجانب"، مبيناً أن "المهم في الأمر هو إدارة هذه المساحات الخضراء، وتوفير مقومات بقائها وديمومتها".

يضيف العنزي لـ (الصباح)، أنه "لشديد الأسف فإن قطعة واسعة من الأرض تزرع وتتم إحاطتها بأسيجة لتتحول في النهاية إلى مكب للنفايات، إذ إننا نفتقد لوجود هذه المساحات في أي دائرة أو مديرية أو في الأحياء السكنية أيضاً"، مؤكداً، أننا "بأمس الحاجة للمساحات الخضراء ولكن ليس هنالك من يراعي ذلك، فقد زحفت المشاريع الاستثمارية على الكثير منها كما زحف الريف على المدينة، وقلة المياه أثرت في مساحات واسعة من الأراضي المحيطة بالمدن".

ويتابع العنزي، أن "سوء الإدارة وقلة التخصيصات أيضاً لعبا دوراً في تقليص المساحات الخضراء، فمن المسؤول؟ وبالرغم من هذا التساؤل إلا أن الكل شركاء، وعلى رأسهم الثقافة المجتمعية"، مبيناً أن "علاج هذه المشكلة يكون بالتوعية، كأن تكون جملة (اخذ عيني بربع بس لا اشوف ورده تنكطع)، أو (ازرع ولا تقطع) شعاراً بسيطاً تعلمناه  في الصغر غاب اليوم عنا، إضافة إلى أن فكرة البيوت الخضراء غابت عن جميع المعنيين، فماذا يضر لو جعلوا أسطح المنازل مزروعة أو أسيجتها تكون خضراء من خلال دعم يتلقاه المواطن صاحب المنزل من أي دائرة في المنطقة، إذ إن هذه الثقافة نفتقدها، وما إن نفذت وتحققت فالمدينة ستتحول خلال موسم واحد إلى غابة غناء".


التخطيط أولاً

الدكتور عبد الواحد مشعل، وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد يقول: إن "مدينة بغداد تشهد ولا سيما ضمن حدود الأمانة تجريفاً تعسفياً تجاه الطبيعة المتمثلة بالمنطقة الخضراء، والذي ينبغي أن تكون مناطق خضراء في مناطق المدينة المختلفة، فقد ساعدت الظروف المختلفة في البلد على هذا السلوك، ما أفقد المدينة وسكانها ميزة حمايتهم من الغبار ودرجات الحرارة، فضلاً عن جمالية المدينة"، مشيراً إلى أنه "كان لذلك نتائج سلبية على حاضر المدينة ومستقبلها، إضافة إلى أن كثيراً من المساكن ذات المساحات الكبيرة تحولت إلى قطع صغيرة".

ويضيف الدكتور مشعل في حديث خص به (الصباح) ، بأنه "فور ما تمت الموافقة على تجريف حدائق تلك المساكن تحولت بعض هذه المناطق إلى مساحات صغيرة كأنها دكاكين، وهذا يتطلب من مخططي المدن معالجة ذلك، كما يجب إنشاء مدن حديثة خارج العاصمة تتوفر فيها خدمات المدينة المتكاملة".


خطة مركزية

بينما أكد الخبير البيئي صميم سلام، أن "المساحات الخضراء تشكل ركيزةً أساسيةً في استدامة النظم البيئية، وتُعدّ من أهم العوامل المُساهمة في خفض درجات الحرارة في المدن، مع تأثير إيجابي مُمتدّ على الأصعدة المجتمعية والنفسية والصحية للمواطنين، بالإضافة إلى دورها كعنصر حيوي في تنوع النظم الاحيائية الحضرية، وكمصدات للرياح"، مبيناً أن "زيادة الرقعة الخضراء أولوية قصوى يجب أن تتبناها الحكومات ضمن برامجها، ولا يقتصر ذلك على الجهات الحكومية فحسب، بل يتطلب الأمر مبادرات مجتمعية فردية وجماعية لتعزيز المشاركة المجتمعية، مع ضرورة الحفاظ على المساحات الخضراء من أي تجاوزات، سواء من قِبَل جهات نافذة أو مستثمرين، كما يجب زيادة الواحات الخضراء والغابات الصناعية، بما فيها الغابات الصناعية المثمرة، لما لها من مردود اقتصادي مهم".  ويبين سلام لـ (الصباح) بأننا "كخبراء، نطمح إلى أن تولي البلديات هذه المشاريع والبرامج الأهمية اللازمة ضمن اختصاصاتها، وأن تتبنى خطة مركزية لزيادة الرقعة الخضراء، مع منع التجاوز على الأراضي الزراعية واستغلالها لأغراض البناء أو الاستثمارات غير المدروسة، وذلك من خلال التوسع العمراني وفقاً لهندسة بيئية مستدامة وتخطيط عمراني متكامل، مع التوسع باتجاه الخارج بمساحات خضراء ضمن التخطيط الأساسي للمدن، وتجنب التوسع نحو الداخل الذي يُسبب الاختناق السكاني، وهي مشكلة تعاني منها محافظة بغداد وبعض المدن العراقية الأخرى".