خيرٌ من ألفِ شهر

منصة 2025/03/23
...

جواد علي كسار

يذكر البحث التفسيري وما جاء من الروايات عن سورة القدر، وجوهاً عدّة في المراد من قوله سبحانه: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر: 3) منها:

1ـ إن العمل فيها والتوفيق لها قبل ذلك، يعدل عمراً كاملاً للإنسان. فلو أصاب الإنسان المسلم ليلة القدر مرّة واحدة في حياته، فإنها تساوي له عمراً في الطاعة ممتدّاً على (83) سنة ونيفاً، هي مقدار الألف شهر.

وما كانت هذه البركة الإلهية الممتدّة لتحصل إلا بفضلٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله، وما هو عليه من حرص على أمته. ففي الحديث الشريف عن ابن عباس ـ كما ذكره صاحب مجمع البيان ـ أنه ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وآله رجل من بني إسرائيل، أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله عجباً شديداً وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال: "يا ربّ، جعلت أمتي أقصر الناس أعماراً وأقلّها أعمالاً. فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله؛ لك ولأمتك من بعدك إلى القيامة، في كلّ 

رمضان".

2ـ الوجه الآخر مما تحدّث عنه الروايات التفسيرية، أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. فهذا رجل يسأل الإمام الصادق: كيف تكون ليلة القدر خير من ألف شهر؟ قال عليه السلام: "العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر".

وفي نص آخر سأل أحدهم الإمام الباقر: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ أي شيء عنى بذلك؟ فأجابه عليه السلام: "العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير، خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر".

3ـ من الوجوه التي تضافرت على نقلها كتب المسلمين قاطبةً في الرواية والحديث والتاريخ، أن الله سبحانه سلّى نبيّه بإعطاء ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر من حكم بني أمية. وخلاصة الواقعة كما يذكرها الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم كثير، أن النبي صلى الله عليه وآله رأى في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده، ويضلون الناس عن الصراط القهقرى. فأغمّه ذلك وأصبح كئيباً حزيناً، فهبط جبرائيل بسورة القدر تسليةً، وقد جعلها الله له خيراً من ألف شهر من حكم بني أمية؛ والروايات في ذلك كثيرة من كتب الفريقين.

يستطيع الإنسان المسلم بالمراقبة ورعاية الآداب المعنوية وضبط النفس، أن ينال المثوبة العبادية لليلة القدر، والله واسع المغفرة عظيم العطاء. لكن التوفيق إلى ليلة القدر يمرّ بتكوين معرفي دقيق لها، وليلة القدر لا تنعقد مطلقاً ولا تتحقق في الخارج أبداً إلا بطرفين وبركيزتين؛ الأولى هي الأمر المنزل من الله في ليلة القدر تحمله الملائكة: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا﴾ (الدخان: 4ـ 5) والثانية هي «صاحب الأمر» وهو خير عباد الله والأفضل من بينهم؛ رسول الله في وقته، وولاة الأمر من بعده.

فمن دون «الأمر» المنزل من السماء، و«صاحب الأمر» الذي يستقبل حملة «الأمر» على الأرض، لا تنعقد ليلة القدر أبداً، ولا تتحقق إلا بالأمر وصاحب الأمر معاً، إذ لا بدّ لأمر الله الذي تهبط به الملائكة إلى الأرض، من صاحب؛ وهذا هو المعنى العميق والجوهري لليلة القدر، من دون تنافٍ مع الوجوه 

المتقدّمة.