جواد علي كسار
لكتاب الله دائرة نفوذ تتفاوت من شخصٍ إلى آخر، ويتفاوت فيها نصيب أحدنا عن الآخر. ولا ريب أن من مفاتيح النفوذ إلى الدائرة القرآنية هي تلك الومضات التي تهبُّ على النفوس والعقول، وقد تُغيّر مسار الإنسان وحركة حياته والمصير الذي يؤول
إليه.
النبي هو القمة في هذه الدائرة، فقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال لابن مسعود: اقرأ عليّ. يعني شيئاً من القرآن. قال ابن مسعود: ففتحتُ سورة النساء، فلما بلغتُ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ رأيتُ عينه صلى الله عليه وآله تذرفان من الدمع، فقال لي: حسبُك الآن.
وفي خبر آخر، روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لابن مسعود، وكان يُحبّ قراءته للقرآن: اقرأ، فقال ابن مسعود: يا رسول الله اقرأُ وعليك أُنزل؟ فقال: إني أحبُّ أن أسمعه من غيري، فكان ابن مسعود يقرأ ورسول الله عيناه
تفيضان.
وقائع تفاعل أمة المصطفى مع القرآن كثيرة نختار منها واحدة. قال بعضهم: "خرجتُ أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلّمنا، فإذا بامرأة تردّ علينا السلام، وقالت: من أنتم؟ قلنا: ضالون فأتيناكم فاستأنسنا بكم. فقالت: يا هؤلاء، ولو وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا. فألقت لنا مسحاً، وقالت: اجلسوا عليه حتى يأتي
ابني.
ثمّ جعلت ترفع طرف الخيمة وتردّها إلى أن رفعته مرّة، فقالت: أسئل الله بركة المقبل، أما البعير فبعيرُ ابني وأما الراكب فليس هو.
فوقف الراكب عليها، وقال: يا أمّ عقيل! عظّم الله أجركِ في عقيل ولدك، فقالت: ويحك! مات؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر. فقالت: انزل واقضِ ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرّب إلينا الطعام. خرجت إلينا وقالت: يا قوم! هل فيكم من يُحسن من كتاب الله شيئاً؟ فقلتُ: نعم. قالت: فاقرأ عليّ آيات أتعزّى بها عن
ولدي.
فقلت: يقول الله عز وجل: ﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ﴾
(البقرة: 155ـ 157).
قالت: بالله إنها في كتاب الله هكذا؟ قلتُ: والله إنها لفي كتاب الله هكذا. فقالت: السلام عليكم، ثمّ صفّت قدميها وصلّت ركعات، ثمّ قالت: اللهم إني قد فعلتُ ما أمرتني فأنجز لي ما وعدتني، ثمّ أضافت: ولو بقي أحدٌ لأحد - فقلتُ في نفسي تقول: لبقى أبني لحاجتي إليه - بيدَ أنها قالت في تتمة جملتها: لبقي محمد صلى الله عليه وآله لأمته".
يقول راوي القصة التي ينقلها الشهيد الثاني الفقيه الشيخ زين الدين علي بن أحمد العاملي في كتابه «مسكّن الفؤاد»؛ يقول: فخرجنا وأنا أقول: ما رأيتُ أكمل منها ولا أجزل ، ذكرتْ ربّها بأكمل خصاله وأجمل جلاله.