وارد بدر السالم
* قبل أن يخرج الكاتب من بيته، لفتته هوامش لا تقع عين السرد عليها، من عناصر أليفة وهوامش قد لا ينتبه إليها أحد من الكتاب ولا يعيرها اهتماماً سردياً. حتى هو لم يكن ينتبه اليها سابقاً، كأنما فاجأته بوجودها في لحظة الإعداد للخروج. وإن وجدت في بعض النصوص فهي تقع ضمن التأثيث الشكلي للقصة أو الرواية، من دون أن يكون لها دور مناصِر للسرد.
ولا وظيفة فنيّة يمكنها أن تعود بالفائدة على النصوص. فمما كان حوله كأنّه يراه للمرة الأولى:
(1) الثياب عارية.. لو لم نلبسها نحن فمَن يسترها؟
(2) ربطة العنق مشنقة ناعمة وخفيفة اعتادتها الرقبة. بل صارت جزءاً من كيانها الشخصي. الرقبة مشروع نحر. أربطة العنق مخيفة في عُقَدها المثلثة التي تحاصر الحنجرة.. قد تذكرنا بالمشنقة. احتباس الهواء.. غرغرة الموت. النهاية. لكنها موضة العصور كلها. المشنقة الرسميَّة الناعمة.
(3) السكّين ..اختصرت "داعش" وظائفها المطبخيَّة في الذبح الإسلاموي المعروف..!
(4) الحذاء يمشي صامتاً. لا يعرف كيف يتكلم. لكنه يراقب الحياة من الأسفل. يعكس الأشياء المارّة بذاكرته. الحذاء ليس له لسان. إنما له عيون كثيرة. لا تستخفّوا بذاكرة الأحذية. احذروها فإنها ترى الخطوات الذاهبة الى كل مكان. وشاية الحذاء ليس لها بداية ولا نهاية.
(5) "الموبايل" هو العالَم الذي نضعه في جيوبنا الخلفيَّة. وجميعنا يُدرك أن سبع قارات بعواصمها ومدنا الصغيرة والكبيرة محبوسة في آلة بحجم اليد. العالَم الإلكتروني أوصلنا الى خيال، وسيوصلنا الى حقائق أكثر عمقاً وخيالاً مما نشهده الآن. هذه حتمية العلم وقدرته على الاختراع الفائق. العلم ليس خرافة ولا أسطورة. إنّه مستقبل البشريّة في آلة ستكون أصغر من حبة الحمّص.
(6) الكومبيوتر كائن من شرائح الكترونية. له عقل وأصابع وعيون وأنوف وآذان وأصوات وموسيقى ورقص وبيانات. يتفوق على البشر بأنّه يعتمد لغات العالَم كلها. له مواهب مألوفة وغير مألوفة، مثلما لديه إمكانيات خارقة في الوصول الى أبعد نقطة في الأرض. تنام هذه الآلة مثلما ينام الإنسان، وتستيقظ عندما يستيقظ.
(7) المكتبة أنفاس متجمّدة بين الرفوف. مؤلفون ميتون. آخرون أحياء. وفريق ثالث هجر الكتابة أو هجرته هي. صار الجميع رزمَ أوراق تلتصق ببعضها. تروي وتحكي وتقول وتشيّد وتهدم. بعض الكتب أفكار صغيرة انتفخت وتمددت وكبُرت على حساب كتبٍ أخرى لم تكبر وتنتفخ وتتمدد، بل اكتفت بما هي عليه. لهذا فهي نحيفة. هذه الكتب أكثر إغراءً من غيرها في القراءة. إنّها خلاصة لزاوية من الحياة. والخلاصات عادة ما تكون أنيقة.. بل نحيفة.
(8) فأرة الحاسبة لا تعض ولا تلدغ ولا تجرح ولا تُخيف، لكنها تخدع المغفلين. مَصْيَدة. أيُّ خطأ في التوجيه يقود الى عوالم غير مستقرة، فكرياً ودينياً وأخلاقياً. تتحكم بها الأصابع يميناً وشمالاً. الحركة متوزعة بين رقعة بلاستيكية صغيرة؛ أكبر من الفأرة؛ وبها تتقرر مصائر العالم. الفأرة المتحركة تقرر المصائر في كثير من الأحيان. تلك هي الفأرة السياسية على الأرجح.
(9) أصبح التلفزيون ديكوراً في المنازل القديمة. جددته حداثة التكنولوجيا فأصبح "خفيفاً" أخفّ من ريشة زرزور. لا نشك بأن الإلكترونيات اختلطت ببعضها. أصبح هذا الجهاز تفاعليَّاً، قريناً "بالموبايل والوايف فاي" والانترنت. صار مرأىً عاماً لكل هذا. إنه ديكور. تحفة في البيوت لا يشتريها أحد.
(10) تقترن "المسبحة" بالصلاة والدعاء والتوسل. 31 خرزة ناعمة تتقاطر بيد عجوز ترتعش أكلتها التجاعيد. تتابع أصوات المسبحة ناعمة كأنها تقاطُر حبّات الماء من حنفية غير مغلقة جيداً. رنين روحاني خفيف ينظّم الروح والعقل باتجاه السماء. توسل عظيم يخفف من وطأة العنف النفسي بصوره كلها.
(11) للبابِ أبوابٌ كثيرة. ولأنه حارسُ البيت وعتبته الأولى، فإنّه آخر ما يُبنى في البيت. لهذا تكون النهاية هي البداية. يكتمل البيت عند وضع الباب في مكانه ويُغلق. وللأبواب استفاضات صوفية كثيرة: باب الرزق. باب النجاة. باب السماء. باب الحياة.
قال النفّري: لكل باب ألف كلمة.
* في الحي وقعت عينا الكاتب على خلاصات صغيرة، فأيقن أن الحياة اليوميّة عبارة عن سرود صغيرة، تتجمّع بيد الكتّاب وتصاغ منها العبارات والأفكار ومن ثمَّ القصص والروايات:
(1) الفراغ أوجد المقاهي. والمقاهي رسّخت الفراغ.
(2) مذيعات الفضائيات؛ في المقهى؛ أنيقات وجميلات. يتعطرنَ بعطور باذخة لا نشمّها. المذيعات كائنات شفافة ينقلن أخبار الوجع العربي بلباقة حتى وإن لا يقصدنّه. بعض المذيعات مُلاسِنات بفهم أو من دونه. بعضهن تشفُّ بيئتهنّ الاجتماعية عن تمردٍ أو تنمّرٍ أو وقاحة. وأخريات هادئات يعرفنَ ما لهنّ وما عليهنّ. يملأنَ الشاشة بالرقة والعذوبة.. المذيعة الحلوة هي التي نصدقها حتى لو كانت تقرأ الخبر الكاذب.
(3) المطاعم مطابخ ليس بالضرورة أن تكون صحية؛ فالصحة هي في مكان آخر من البيت. المطعم يوحي بالسفر والارتحال من مكان قريب الى مكان بعيد. غير أن مطاعم المدينة تختصر هذا الإجراء، فأوجدت "الدلفري" وهذا لا يفرق عن عمل الخادمة. فصار السفر الى الداخل مرتهناً بخَدم المطاعم "الدلفريين" الذين يطيرون على دراجات نارية في الموعد المحدد.
(4) التاكسي حاضنة مؤقتة. غرفة استقبال صغيرة متحركة. ميني صالة مبرّدة صيفاً، ودافئة شتاءً. رحمٌ مؤقت ندخل فيه ونخرج من دون أن نشعر بأننا كنّا أجنّة كباراً.
(5) الأرصفة أذرع اسمنتية طويلة تحصر الشوارع وتوجهها الى مراكز المدن والعواصم والبلدات. تسير مع السيارات، وتتوقف عند إشارات المرور الحمراء.
(6) المحال بيوت ثابتة، لكنها لا تمتلك بعضاً من شروط البيوت. وظيفة يومية متعبة، يتداخل فيها الحرام بالحلال. الأسود بالأبيض.
(7) النساء فاكهة المدن. لا توجد مدن بلا نساء. عطور وروائح وموضات وسعادات ماشية الى كل مكان.. النساء تفاحات على أشجار المدن.