غيث الربيعي
يعد تقديم الطعام والشراب للضيف من رمزيات الضيافة عند العرب، ولكن هل سمعنا يوماً أن مَضيفاً منع عن ضيفه الأكل والشرب؟ وأمره بالجوع والعطش؟ بالتأكيد أن هذا الأمر يعتبر معيباً بالنسبة للمعاملات الإنسانية، لكنه جائز في ساحة الفيض الإلهي، فضيافة أكرم الأكرمين لا تخضع للقوانين المادية، إنه تعالى يريد أن يُركبنا مركباً تتحقق فيه غاية خلقنا، ونصل في عبادتنا إلى أوج فائدتها، وهي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى الكمال، حيث قال الله تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). وقد اختلف تفسير مفردة (اليقين)، فقد قيل إنها تعني الموت، وقيل الكمال، وقيل الغاية، وكلها تصب في مصب واحد، وهو الانشغال بالعبادة وفعل الصالحات إلى أن يحقق العبد غايته، وهي لقاء الله بقلب سليم، وقد قال العلامة السيد الطباطبائي صاحب الميزان (قدس سره) في تفسيره: إن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده، لا يسكن عنها دون أن ينالها، إلا أن يمنعه عن ذلك مزاحم، فيبطل دون الوصول إلى غايته.
وأقول، إن هذه الغاية العبادية اليقينية لا تتحقق إلا بتأدية التكليف الذي فرضه المعبود على العابد، وهذا التحقق يلزم التخلي عن المكبلات الدنيوية، الغرائز الشهوانية التي تأخذ الإنسان بعيداً عن شاطئ النعيم الإلهي.
فللجوع فلسفة عالية لا يعيها إلا من نوى القرب والوصول، وهناك الكثير من الروايات تشير إلى أن الذي يريد أن يسير بدرب اليقين فعليه التقليل من الأكل، لأن الإكثار من الطعام يميت القلب كما يميت الماء الزرع إذا كثر عليه، فعن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) روي أنه قال: أفضلكم منزلة عند الله تعالى يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكراً، وأبغضكم إلى الله تعالى كل نئوم أكول شروب.
وروي كذلك أنه قال: (ولاتميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء). فإذا مات القلب السليم فحينها لا ينفع مال ولا بنون. والكثير من الروايات عن النبي الأكرم وأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) وكلمات أعلام علمائنا تشير إلى فضيلة الجوع على الشبع.
جميعنا قد سمع المرويات عن أهل البيت (صلوات الله عليهم) التي تخبرنا أنهم كانوا يبذلون طعامهم وقوتهم للفقراء ويبقون جوعى في كثير من الأيام، وعلى نهجهم سار أبناؤهم الطاهرون وشيعتهم المخلصون، فهذا الفعل ليس عن فراغ، بل عن حكمة بأن للجوع بديلا أعظم، وهو كمال غاية التوحيد، والتسليم اليقيني لله تعالى، فجزاهم بما صبروا جنة وحريراً.
وبما تقدم، صار من الواضح أن هناك أجراً عظيماً مقابل فرض الصيام الذي أمرنا الله به، وهو كمالنا ويقيننا وغاية وجودنا. فقد دعانا الله تعالى إلى ضيافته في شهر قد اختاره لنا، أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليال، كل عمل صالح فيه مقبول، والدعوة فيه مستجابة، بل وأكثر من ذلك، فالصائم يؤجر حتى على أنفاسه ونومه في شهر ضيافة الله تعالى. وهنا نسأل: أي ضيافة أكرم من ضيافة الله تعالى؟ .