عدنان حسين أحمد
ليس بالضرورة أن تروي الأفلام الروائية أو الوثائقية قصصًا تعتمد على سياقات سردية كرونولوجية. فيمكن لكاتب السيناريو أن يبدأ من منتصف القصة أو من نهايتها، إن شئتم. وهناك من يعتمد على بنى متوازية أو متداخلة، وهناك منْ يقدّم لك شظايا القصة ويطلب منك أن تُعيد ترتيبها وصياغتها من جديد، كما هو الحال في الرواية الجديدة أو تيار اللا رواية التي تطلب من القارئ ما هو أبعد من حدود القراءة والتلقّي البارد وتدفع به إلى التفاعل مع النص والتماهي مع مادته المسرودة.
ولعل فيلم "مزرعة الفواكه" للمخرجة الصينية نانا شو هو من هذا النمط، الذي لا يأخذ متلقّيه مباشرة إلى ثنائية السبب والنتيجة ليجعلهُ يفكّر بالدكتاتورية التي تفضي إلى القمع والاستبداد ومصادرة الحريات الشخصية والعامة وما إلى ذلك. فالمخرجة نانا شو ترصد تطور تاريخ مسقط رأسها في الصين حيث وُلدت في مكان لا اسم له لكنه يحمل الرقم 909، وسوف يمرّ هذا المكان الذي شُيّد سنة 1958م بأربع مراحل وهي على التوالي: معسكر عمل، سجن، مزرعة فواكه ومركز علاج لإعادة تأهيل مُدمني المخدرات. كما تعمّدت المخرجة أن تنسج قصة الفيلم الرئيسة من ذكريات شخصية لعدد من شخصيات هذه المدينة كاشفة لنا، بما لا يقبل الشك، أنّ ذكريات الماضي الاستبدادي "المكبوت" على وجه التحديد تؤثر في الحاضر وتشكّله بطريقة أو بأخرى.
تُذكِّرنا "الثورة الثقافية" في الصين بأنّ الدافع هو "الحفاظ على الشيوعية من خلال تطهير العناصر الرأسمالية والتقليدية، والصراع على السلطة بين الماويين والبراغماتيين". الأمر الذي يدعو المتلقي للبحث في أسباب هذه الثورة التي انطلقت في 16 مايو 1966م واستمرت لغاية 6 أكتوبر 1976م، بينما كانت المخرجة منهمكة في اللقاء مع آخر الشهود المتبقين، الذين يعانون من ضعف الذاكرة وصعوبة التنقّل بين الأحياء التي سكنوا فيها وهم في ذروة الصبا والشباب. فالفيلم يلمِّح ولا يصرّح، ويعتمد على المجاز أكثر من اعتماده على اللغة الحقيقية الصريحة. البعض لا يتذكر لماذا أُبعِد إلى هذا المكان النائي، الذي يقع خلف الجبال الشاهقة في جنوب غربيّ الصين بمن فيهم والد المخرجة، الذي أُخفي عمدًا من قبل النظام القمعي لما تسي تونغ، الذي أغرق البلاد في حالة من الفوضى العارمة التي راح ضحيتها مئات الألوف، وتمّ تعذيب الملايين من البشر، وتخريب التراث الثقافي وأوصل البلاد إلى حافة الحرب الأهلية. ومع أنهم لا يسترجعون الكثير من الأحداث بسبب التقدّم في العمر، إلّا أنهم يتذكرون جيدًا الهواء الجاف للمنطقة التي عاشوا فيها ردحًا طويلًا من الزمن، وتلال الدفن، وقصص الأشباح التي تستوطن "بيوت الراحة" ورجال الشرطة الذين يتعاملون بقسوة في كل مراحل تطور هذه المدينة التي انبثقت من ذاكرة القائمين على السلطة، الذين نجحوا في القمع والاستبداد، لكنهم لم يفلحوا تمامًا في طمس الذكريات وإخفاء سلسلة الحوادث المرعبة التي مرّ عليها ستة عقود أو يزيد.
لقد عاشت المخرجة نانا شو خلال العشر سنوات الأولى من حياتها واضطرت إلى الانتقال إلى مدينة أخرى سألها الأصدقاء عن المهنة، التي تريد أن تمارسها فأجابت من دون تردد بأنها تريد أن تصبح "شرطية" لأنها المهنة الوحيدة، التي طرقت سمعها وعرفتها جيدًا في "مزرعة الفواكه" بوصفها سجنًا ومعسكر عمل لا غير!
تتوقف المخرجة عند حادثة السجين سون مينغوان الذي طوّق نفسه بأحزمة ملغمة وفجّر نفسه متناثرًا فوق أغصان الأشجار، كما تتناول حكاية المرحاض المسكون، الذي يخافه عامة الناس ويخشون الدخول إليه لقضاء حاجاتهم. لا تنسى المخرجة أن تسلّط بعض الضوء على صديق والدها غاو زيون، وعلى مقابر المواطنين في قمم التلال وسفوحها، وعلى الكلاب الذئبية الذكية التي تعرف الموتى وتنبش قبورهم لتأكل جثامينهم بعد الدفن مباشرة.
تنهي المخرجة فيلمها بأنّ الناس لم يعد يسمّون هذا المكان بـ "مزرعة الفواكه" وإنما يُطلقون عليه اسم "مركز إعادة تأهيل متناولي المخدرات" أو "المنزل الأخضر". أمّا الضربة النهائية، التي تقفل فيها المخرجة القصة التي سردتها لنا بتأنٍ شديد أنّ والدها يُخبرها في خاتمة المطاف بأنّ أفضل أصدقائه المقرّبين إلى قلبه وروحه قد فارق الحياة، وأنه قد حلم بموته في أثناء النهار، فهل كان حلم يقظة أم منام؟
جدير ذكره أنّ نانا شو من مواليد "مزرعة الفواكه" 1992م في الصين. حاصلة على بكالوريوس في التصوير الفوتوغرافي. أكملت دراستها في المعهد السينمائي بهامبورغ. ومن أبرز أفلامها "سمك"، "في المسافة" و"نيو ناي".