علي حمود الحسن
نادرا ما يحقق المخرجون الشباب، لا سيما في تجاربهم الأولى، أفلاما وثائقية قصيرة، تنطبق عليها معايير هذا النوع من الأفلام، فالفيلم الوثائقي القصير اصطلاحا " غير روائي ينقل رؤيته الاحداث كما جرت في الواقع، يكثفها بلا ترهل، ولا يتجاوز زمنه 30دقيقة"، وهذا يعني فيما يعنيه ايجازا وتكثيفا بصريا، وبلاغة سردية لإيصال فكرته، من دون تعسف سردي وتقريرية مملة، فيلم الشاب علي يحيى " إبراهيم"(2025) حقق هذا الاقتراب، فاستحق تنبيها من لجنة التحكيم الدولية في الدورة الـ75 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، ضمن فئة "أجيال"، اذ عُرض الفيلم في خمس قاعات سينمائية ضمن فعاليات مهرجان برلين في العاصمة الألمانية، كما كان جزءًا من سوق الأفلام الأوروبية، الأمر الذي جعله محط اهتمام واسع من النقاد وصنّاع السينما ومحبي الأفلام من مختلف أنحاء العالم.".
قوة الفيلم في تقديري تكمن في موضوعه، اذ اختار المخرج بمعاضدة كاتب سيناريو فطن يوميات (محمد باز) إبراهيم، وهو شاب من الاهوار تربطه علاقة فريدة بجاموسته وحاضنته المائية.. وجه حزين قلق يعاني نوعا من التقزم، فيبدو أقرب الى الطفل منه الى شاب في عمر 19 عاما، يبدو حزينا، ويراقب باهتمام كل ما حوله، كأنما يريد ان يحتفظ بكل ما يشاهده من سحر الهور، الذي بدا ينحسر شيئا فشيئا ويجف بمائه، بفعل ظروف كثيرة بدءًا بالحروب وتغيير مسار الأنهار وانتهاءً بقطع مصبات الأنهار والإهمال، فضلا عن اقتراب شبح شركات التنقيب عن النفط المخيف، تموت الجاموسة وتتحول هواجس إبراهيم الى حقيقية، ينتهي الفيلم بإشارة إغاثة لإنقاذ هذه المسطحات المائية الفريدة بناسها وقصبها وثروتها الحيوانية التي لا تضاهى.
اعتمد يحيى في سرد احداثه على فريق العمل متفهم ومتمكن، لا سيما المصور أمير علي، الذي قدم "كادرات" ساحرة ضاجة بالمشاعر، ومحملة بالحنين الى هذه البيئة الفريدة، موظفا اللقطات القريبة والبانورامية، التي شدها مونتير بارع، خاصة تلك التي صورت إبراهيم في "مشحوفه"، وهو يتأمل جواميسه بحنو وقلق، فكانت حقا لوحات بصرية آسرة تستدعي الى الاذهان تجليات كياروستمي، مع فارق التجريد عند كياروستمي وواقعية علي يحيى.
ارتكز الفيلم سرديا على شخصية إبراهيم، التي من خلاله قدم يحيى وفريق عمله سردا بصريا جاذبا، اذ كانت نظرات إبراهيم وحركات، بل وحتى "صفناته" تتسم بالحياة والحيوية، ما كبح جماح رغبة لا واعية في التصدي لمثل هذه المواضيع التي تستهوي الأوربيين وتثير فضولهم، وحسنا فعل المخرج ومونتيره أكرم سعدون ( خذني الى السينما)، في إبراز اللقطات، التي تظهر وجه إبراهيم وسكاناته، ما جعل المتفرج في حالة دائمة من الترقب، وقلل من رتابة قطعات المونتيرية، التي كادت تُشعر المشاهد بالملل لولا " المونتاج النفسي" المتجسد في حركات إبراهيم وسكناته، إلى جانب وجهه الطفولي البريء، وهي مهمة ليست باليسيرة، خصوصا والفيلم بلا حوار، وان عوضت ذلك الموسيقى التصويرية التي وضعها خيام اللامي، مما عزز عمق الصورة وجمالها، أما المشاهد التي ظهرت فيها الكتل الخرسانية، فقد بدت مصنوعة بلا تمهيد، ربما لتحقيق صدمة للمشاهد!