فقدان الوظيفة.. تحديات نفسية تهدِّد الروابط الأسرية و الاجتماعية

اسرة ومجتمع 2025/04/13
...

  بغداد: غيداء البياتي


في زقاق شعبي ببغداد، يجلس أبو مهند (41 عاماً) قرب طاولة قديمة داخل غرفة صغيرة حوَّلها   إلى ورشة مؤقتة لتصليح الهواتف المحمولة. يداه الخشنتان تتحركان بدقَّة بين الأسلاك والأدوات، بينما عقله غارق في حسابات الراتب الذي بالكاد يكفي لقوت أسرته.

لم يكن هذا حاله قبل أسابيع، حين كان يعمل في محل لصيانة الأجهزة الذكية، لكن إغلاق المحل المفاجئ أنهى مصدر رزقه الوحيد، ودفعه   إلى حافة التوتر والقلق، بل   إلى التضحية بصحته من أجل ضمان لقمة العيش لأطفاله الستة.

ليس وحده من يعيش هذه المعاناة، فكلما ارتفعت نسب البطالة في البلاد، ارتفعت معها معدلات القلق والاكتئاب والانهيار النفسي. من الأزقة البسيطة   إلى البيوت المتعبة، قصص كثيرة عن رجال وشباب فقدوا وظائفهم، ووجدوا أنفسهم فجأة في دوَّامة من الضغوط النفسية، بعضها ينتهي بالاكتئاب... وبعضها بما هو أخطر..

أفكار مزعجة

أبو مهند يقول:” أفكار سوداء ومزعجة غالباً ما تتسلل إلى عقلي الباطن فتارة أفكر فيما لو أن أحداً من أفراد العائلة تعرَّض لوعكة صحية، هل سأستطيع توفير المال الكافي لعلاجه أم سيضطرني الموقف   إلى الاستدانة من أحد الأصدقاء أو الأقرباء؟ وهل أن ذلك التصرف سيريحني أو سيؤذيني جسدياً ونفسياً؟، موضحاً أن تلك الأفكار جعلت منه شخصاً مرهقاً نفسياً وجسدياً، وأصبح خوفه من أحداث المستقبل يؤثر في صحته، وأنه أكد على أن العمل نعمة وفقدانه لا يقتصر فقط على العوز للمال بل إنه يدمر الصحة لعدم الراحة والقلق المستمر من المستقبل، وربما أن فقدان العمل قد يؤدي   إلى الموت البطيء” .

وقد أطلقت أم مازن “54” عاماً تسمية “الجائحة” على البطالة لما تعرض له أبنها بعد أن فقد العمل وخسر ماله في أحد المشاريع، وتحدثت عنه بحسرة كبيرة:” لم يستطع تحمل الأزمة المالية التي تعرض لها بعد خسارته، فانهار نفسياً ما اضطره   إلى أن يلجأ للإفراط في التدخين والتفكير الذي جعل منه إنساناً متمارضاً، وكئيباً

تحويل الفشل   إلى نجاح

أم مازن أشادت بجهود وقوة مرتضى العامري زميل ابنها وشريكه في الخسارة المالية لمشروعهم وشرحت كيف استطاع الأخير أن يحوِّل خسارته   إلى أرباح من خلال الأمل الذي قال عنه العامري متداخلاً في الحديث معنا إنه وقود العمل وأن الله تعالى  إذا ما أغلق باباً فإنه سيفتح ألفاً غيره للرزق، والحمد لله على نعمتَي الصحة والإيمان فمن خلالهما استطعت أن أجد آفاقاً جديدة للنجاح والخروج من الأزمة المالية.

دراسة حديثة

ومن خلال التأريخ والتجارب السابقة للكثير من الناس فإن خبراء أكدوا عبر دراسة حديثة على أن هناك أملاً، فالأزمات المالية قد تكون نقاط تحوُّل إيجابية للذين يستطيعون رؤيتها فرصة لإعادة اختراع الذات، وأن المفتاح لذلك يكمن في التحوُّل من الضحية   إلى المبادر، من خلال السعي وعدم الاستسلام. 

وأكدت الدراسة أيضاً أن كل بطالة تسجلها الإحصائيات في أي بلد تعني جسداً مهدداً بالأمراض ونفسية على حافة الانهيار وهذه هي الجائحة الخفية، وأن الأبحاث التي أُجريت في تلك الدراسة أظهرت أن طريقة إدراكنا للأزمة المالية قد تكون أخطر من الأزمة نفسها، فالقلق من المستقبل المالي يؤثر في الصحة النفسية والجسدية بعشرين ضعفاً مقارنة بالخسارة المالية الفعلية.

استشاري الطب النفسي ورئيس جمعية الأطباء النفسانيين العراقيين الدكتور حيدر المالكي قال لـ”أسرة ومجتمع”:” إن البطالة من أخطر المشكلات التي تواجه اقتصاد العالم، فالإنسان عندما يفقد وظيفته أو عمله الذي يُعدُّ مصدر رزقه يشعر بالفراغ والملل، مايؤثر سلباً في صحة جسده ونفسيته خاصة الرجال كونهم مسؤولين عن إعالة عوائلهم، لذلك نرى حتى المتقاعدين منزعجين وبمزاج سيئ طول اليوم ويبدؤون بالتكاسل فيصبحون كثيري الشكوى من آلام الجسد الذي اعتاد على الحركة والاستيقاظ صباحاً للذهاب   إلى العمل، وبعض الأحيان يبحثون عن المشكلات داخل الأسرة لمجرد أن يشغلوا أنفسهم، وبعضهم يشكِّل مصدر إزعاج للعائلة” .

أما عن فقدان الشاب لعمله فأكد المالكي “ أن البطالة إذا انتشرت بين الفئات العمرية القادرة على العطاء تؤدي   إلى انهيار الأسرة ومن ثم المجتمع فالشاب لديه مخزون من الطاقة الإنتاجية وإذا لم تستثمر في العمل قد يضيع بسبب الفراغ فهو سيشعر بالفشل وانخفاض في قيمته الاجتماعية فلا زوجة ولا أسرة؛ لأن البطالة تؤخر سنَّ الزواج ما يجعله يكره المجتمع والاختلاط ويميل   إلى العزلة التي قد تؤدي   إلى الإدمان على الكحول والتدخين والمخدرات وسيصاب بأمراض نفسية، وحتما سيلجأ   إلى السرقة وبذلك فإنه سينهي حياته أما بالسجن أو الانتحار

فرص عمل

دكتور حيدر أكد “على أهمية توظيف الشباب وإتاحة الفرصة لهم في العمل وينصح باستمرار التواصل وإقامة العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تساعد في فتح مشاريع صغيرة وتنجح، كما يشير   إلى أهمية العمل التطوعي الذي قد يُسهم في إيجاد عمل مستمر” .

أما بالنسبة للمتقاعدين فينصح دكتور حيدر المالكي بضرورة التواصل مع أصدقاء العمل والعلاقات الاجتماعية، وتخصيص وقت لممارسة الهوايات بما فيها الرياضة وإعطاء وقتٍ كافٍ للقراءة والنوم وعدم التفكير بالمستقبل