صعود الأحلام.. هبوط الأوهام

ثقافة 2025/04/14
...

  باقر صاحب


(1)

ربما لن يصدّق أحدٌ ذلك، أشباحٌ في بيتٍ جديدٍ غيرَ مكتملِ البناء! مجرّد هيكلٍ أرضيٍّ مسقّفٍ فقط، من دون بابٍ رئيسة، شرعَ بإكمالِ صبِّ سقفهِ المسلّحِ وتوقَف، ليست هناك سيولةٌ ماليةٌ للاستمرار. كونهُ مفتوحاً، يباتُ عرضةً للأتربة، ولفضولِ أطفالِ الشارعِ الفرعيِّ الذي يقعُ فيه البيت. راحَ بعيدًا في تأملاته، لربَّما إذا تركهُ هكذا قد يباتُ مسرحًا لجريمة قتلٍ..

- يا إلهي.. تمتمَ مع نفسهِ

 ويصبح هو موضعَ شبهاتِ رجال الشرطة والقضاء.

انفضَّ عن كابوسيّاتهِ هذه في واحدةٍ من زياراتهِ المتكررة، وأسرعَ مغادرًا الهيكلَ ظافرًا بصيدٍ قصصيٍّ جديد.

(2) 

جلسَ في مكتبهِ المتواضعِ، في البيتِ القديم. دوّنَ فكرةَ الصَّيد، كلّما أرادَ أن يُشرعَ في نسجِها قصَصَيًّا، تأنّى وتريَّث، ولكنّه قفزَ مغادرًا إلى الهيكل، هناك أصواتٌ تناديه، هل يمكنُ أنْ تكونَ قد وقعتْ جريمةُ قتلٍ فعلًا؟!

دخلَ الهيكلَ متوجِّسًا، إنَّها أصواتٌ فعلًا، أصواتٌ أنثويةٌ، أحسَّ بألفةِ نبراتِها، ذهبَ عنهُ هاجسُ الرعبِ. أصواتٌ من الماضي، ماضي العزوبيَّة، تترددُ أصداؤُها في بيتِ المستقبلِ، يا لهُ من تقاطعٍ غريب.

هل ستغلبُ طابعَ المكانِ أشباحُ المستقبل، أي حينما يكتملُ البيتُ، تُصبح  أولى ساكنيه، بل ستسبقهم  إلى هناك، ولن يجد أصحاب البيت الجديد، العائلة المُكوّنة من عشرة أفراد؛ أولادًا وبنات بضمنهم زوجته العتيدة، موطئ قدم فيه.

 إذًا هو بيتٌ مسكونٌ، بأشباحٍ ترتدي حللًا جميلةً بأطرٍ جديدة، تمتم: "لا، لن تكوننّ توائم خيبات المستقبل، الذي يبدو شاحبًا، بزخارفه البائسة، منذ الآن". أوّلهن  كانتْ جارَتهُ، تلك الكسولةُ اللامباليةُ، التي استغرقَ هيامهُ بها بعضًا من فترةِ الصِّبا، لماذا تدعوه الآن، فقد كانتْ بطلة إحدى قصصه، أراد في قصّةٍ سابقةٍ أن يدفنَ ذكراها الخائبةَ في أرضِ النسيانِ الموحشة، هي قصَّةٌ تنضمُّ إلى حبِّ الرسائل، تجاهلتْ رسالة تصريحٍ بالحب، في حين كانت تنتفع من العاشق الخائب في كتابة موضوعات درس الإنشاء، إذ كانا في مرحلةٍ دراسيةٍ واحدة، لكنَّه كان متمكنًا في درسِ اللغةِ العربية، لشغفهِ بمطالعةِ كتبِ الأدبِ الخارجيّةِ التي يستعيرُها من المكتبةِ المركزيةِ في المدينة. 

 سُمرتها الفاتنة وقوامها الممشوق ماثلان في إحدى غرف البيت- الهيكل، لماذا؟ هل هي رسالةٌ بأنه سيفشلُ في ما هو مقبلٌ عليه، ولن تتحققَ أمنياته المسكوت عنها، وإنّ عشقَ شيخوخته سيترجَّلُ في محطةِ خيبةٍ أيضًا، لسانُ حالِ شفاهِها المثيرةِ يقول (نقّل فؤادك ما تشاء من الهوى/ ما الحبُّ إلّا للحبيب الأوّل).

 لماذا يفهم مثولها في بيتٍ غير مكتمل من جانبٍ واحدٍ وهو التشاؤم مما سيحدث؟. 

(3)    

الصوت الأنثوي الثاني كان لنجمة عشقه الثلاثيني، التي أعلن الحداد عليها في مصعدٍ طائر، عندما كان نزيلًا في أحد فنادق العاصمة، خلال إحدى صعلكاته هناك، فيدخل في مونولوجٍ باعثٍ على الحسرة والحنين واللوم لذاته العاشقة (لماذا أتذكّرها؟ هي السّبب لكلّ ما يحدث لي.. أريد أن أتوازن، أريد أن أوقف الصعود الرهيب هذا. لا أريد أن أموت بهذا الرخص، وهذا الرعب أيضًا، حياتنا رعبٌ متواصل. قف أيّها المصعد المجنون، لن تقتلني. أنت هي. امرأةٌ غدرت بي. شيطانةٌ وأنا ملاك)* لقد أبّنها في المصعد الطائر، ورحلت، بما يحلو له القول، إلى السماء، ماذا تريد منه الآن، هل يرحلان معًا؟.

(4)

واحدةٌ تريدُ إقناعهُ بأنَّه عائدٌ إليها لا محالة، وأخرى تريدُ أن يتزوَّجها بالرغم من  مفاخرتِها أمامهُ بكثرةِ معجبيها وانفتاحِها عليهم، وثالثةٌ تريدُ إقناعهُ بأنَّه ليست هناك أنانيةٌ في أن تموتَ زوجتهُ، كما رأتْ في المنامِ، بعد ولادةٍ عسيرةٍ، ثم يتزوجانِ بعد قصّة حبٍّ صامتة .

(5)

كأنَّ البناءَ لا يكتملُ الاّ بتنفيذهِ ما طلبنَ، وبذلك لا يصبحنَ نساءَ ماضيهِ وحاضرهِ فقط، بل مستقبلُه أيضًا، هذا ما تيقّنَ منه، حين وجدَ صورهنَّ الثلاثَ معلقةً على جدرانِ غرف البيت، كلَّ واحدةٍ في غرفة، ما شدههُ أنّ البناءَ ارتفعَ بعضَ الشيءِ من تلقاءِ ذاته، لماذا لم يكتملِ البيتُ نهائيًا؟، هل هو اكتمالٌ مشروط؟. 

قرّرَ مسايرةَ قصصِ النساءِ الثلاثِ إلى أن تصلَ نهاياتها، كيفما كانتِ النهاياتُ، ففتاةُ صباهُ، ظلَّ يكتب لها الشعر بدلًا عن التقارير الأدبيّة، التي تُطلب منها في الجامعة بالمراسلة، بعد أن انتقل محلّ سكناها إلى منطقةٍ بعيدةٍ عن الحي الذي كانا يسكنان فيه. ومن ثمّ سئم مطالباتها المصلحيَّة، معلنًا لها رفض استمرار هذه العلاقة العقيمة، فسقطت صورتها من على الحائط. 

 أمّا امرأة العشق الناضج، فقد حلم بأنّهما ارتقيا مصعدًا في فندقٍ عملاقٍ تناطح طبقاته السحاب، وحين أرادا أن يترجّلا في الطابق الأخير، استطاعت هي أن تطأ قدماها أرضية خارج المصعد، ووسط اندهاشها قفل به المصعد نازلًا الى الطابق الارضي. في البدء ببطءٍ قاتل، كأنّها السنين الطوال التي افترقا فيها، ومن ثمّ تسارع هبوط المصعد، كأنّما الفندق يسعى إلى لفظه خارج عالمه الذي لا يفهمه، أو كأنّه يحذّره من الزواج من الفتاة البيضاء اللعوب. هذا الصعود والهبوط الفنتازيان فسّره بأنها تزوّجت وأصبح هو خارج اللعبة، فماتت في قلبه. فسقطت صورتها هي الأخرى.

 بقيت الثالثة، الموظفة الأرملة، أحبّها حبًّا صامتًا، لأنّه لا يريد أن يخدعها، لكنها، يُخيَّل اليه، أنّها تصارع البقاء مع زوجته، أيّهما ستحتلُّ عرش البيت الجديد، وفي الوقت ذاته تصارع ضميرها: كيف تميت زوجته في أحلامها؟ فقد حلمت أنّ زوجته، بعد ولادتها طفلةً أخرى، تموت، وبما أنّ زوج الأحلام المنتظر أبٌ لثلاثة أولادٍ وخمس بنات، وللأرملة ولدان وبنت، يصبح مجموع العائلة المفترضة خمسة أولاد وستّ بنات، بالإضافة إليه، هو وزوجته الجديدة. ولكنّها حين حلمت مرّةً أخرى، بأنّ زوجته العريقة ستعيش بعد الولادة، وجد لاحقًا أنّ الصورة الثالثة سقطت في البيت الجديد، تنفّس الصعداء، لأنَّ البيت لن يحول أحدٌ من دون اكتماله. 

(6)

كانت كل زياراته تتمّ مساءً، يدور في أرجاء الهيكل، ممنّيًا النفس بأن يكتمل سريعًا، وكيف ذلك، وهو لا يكتمل إلّا بتعزيزٍ ماليٍّ عاجل. في يومٍ جديد، وعلى غير عادته، ذهب لزيارة الهيكل فجرًا، فدهش قائلًا بصوتٍ مسموعٍ والناس نيام:

- بيتي اكتمل، بيتي مسحور.

 تردّد في الدخول، ولكنّ بهاء البيت وأضواءه الساطعة، دفعته للدخول من دون تردّد. نبضات قلبه تدفّقت كنهرٍ سريع الجريان، ما أجمله من بيت، تفوّق على جميع أحلامه، التي تزوره كلّ يوم، بأنّ بيت المستقبل سيجد فيه واحته العصريّة، التي سيذيب في أروقتها اللؤلؤيَّة كلّ خيبات حياته، كلّ آلامه، التي رافقت كلّ خطاه مثل ظلالٍ ثقيلة، وكلّ مكبوتاته التي يبطّنها بالصبر حينًا، وبالصّراخ من عدم تحمّله صخرة سيزيف حينًا آخر، صاح في أرجاء البيت: لا تكن حلمًا سيرحل، أرجوك.

 فجأة بهت مشدوهًا لمرأى عروسٍ ملائكيَّةٍ تجلس على عرش صالة البيت الذهبيّة الواسعة الأرجاء، مساحة الصالة تفوق مساحة بيته الهيكلي الأجرد.

 هبّ صارخًا: "من أرى؟ حبيبتي القديمة، ابنة خالتي، التي خيّبتُها، وكان كلُّ أملها أن أقترن بها، ومال قلبي عنها بصورةٍ غريبة، لم تجد تفسيرًا لها". كانت نظراتها تدور في فضاء القصر الجميل، تتزاور بين العتاب والسرور، كأنّها تعاتب وتسامح. اقترب منها وخطاه مثقلةٌ بالذنوب، لكنّها اختفت بلمح البصر ولمّا يزل يقترب منها، مثلما اختفى البيت الفردوسي ليعود هيكلًا أجرد.