خرافة موت القصة القصيرة

ثقافة 2025/04/14
...

  أمجد نجم الزيدي


لطالما ارتبطت القصة القصيرة، بتحولات الذائقة الثقافيّة والأنماط المتسارعة في التلقي، والذي منحها قدرة على التكيّف مع شروط الحداثة، يذهب أدريان هانتر في كتابه (مقدّمة كمبردج للقصة القصيرة الإنجليزية)، الصادر عام 2007، إلى أن القصة القصيرة ليست (نقيضا للرواية" ولا "صورة ناقصة منها)، بل جنسٌ أدبيٌّ مستقل وفاعل، قادرٌ على التفاعل مع إيقاع الحياة الحديثة وتحولاتها المتسارعة، وذلك من خلال اعتمادها على أسلوب مختلف في السرد لا يقوم على الامتداد، بل على الإيحاء والاقتصاد، إذ يشير إلى أن سرد القصة القصيرة لا يبنى على الشرح المطول كما تفعل الرواية، بل (عبر سلسلة من الإيماءات الموحية، واللقطات السريعة، ولحظات الإيحاء، وهو فن يعد فيه التفصيل، وقبله التفسير أمرا فائضا ومملا).

إنّ ما يُعزز أهمية القصة القصيرة في زمننا الحاضر ليس فقط قدرتها على محاكاة التجربة المعاصرة، بل انسجامها البنيوي مع نمط الحياة الرقمي السريع وثقافة الاستهلاك، فهي لا تسعى إلى بناء عوالم متشعّبة أو أنظمة سردية مغلقة، بل تضيءُ، كما يراها هانتر، في لحظة سردية خاطفة، مكامنَ المعنى الهشّ والقلق في الوجود المعاصر، لذا فإن القصة القصيرة لا تكتفي بإعادة صياغة الحياة، بل تعيد تأويلها من خلال لحظات شديدة الكثافة والاختزال، تُراهن فيها على الحضور البرقي، لا على الامتداد الزمني أو التراكم، مما يجعلها الشكل السردي الأجدر بالتأمل في زمن السرعة والتحوّل.

تُظهر القصة القصيرة، بوصفها شكلًا أدبيًا مكثفًا قدرة عالية على استخدام "الخطاب السردي" بشكل أكثر توجيهًا، نظرًا لحاجتها إلى الاقتصاد في الوصف والتركيز، وكما يشير واين بوث في كتابه (بلاغة القص The Rhetoric of Fiction)، فإنّ السرد ليس مجرد وسيط محايد لنقل الأحداث، بل هو أداة بلاغيّة معقدة يستخدمها الكاتب للتأثير على القارئ وتوجيه استجاباته، فكل سرد يتضمن صوتًا موجّهًا للمؤلف، سواء كان ظاهرًا من خلال تدخلات مباشرة أو مضمرًا عبر طريقة عرض الأحداث والشخصيات.

فغالبًا ما يكون هذا الصوت أكثر وضوحًا في القصة القصيرة بسبب محدوديّة المساحة النصيَّة وحتميَّة الوصول إلى الأثر الدلالي بسرعة وبدقة، على عكس الرواية، التي تستطيع استيعاب طبقات متعددة من الأصوات السرديّة والمساحات التأمليّة، فإنّ القصة القصيرة تحتاج إلى استراتيجيات بلاغيّة فعّالة لضمان تحقيق المعنى بأقل عدد ممكن من الكلمات، إذ يصبح كل تفصيل في النص محمّلًا بأهمية سرديَّة مضاعفة.

ويبرز تأثير هذا الخطاب السردي أيضًا في كيفيَّة بناء الشخصيات ضمن الحيز الضيق للقصة القصيرة، إذ يشير بوث إلى أن (درجة الإيهام بواقع الشخصيَّة تتحدد بمدى تدخل الراوي في رسم ملامحها)، مما يعني أنَّ القصة القصيرة، بتركيزها على لحظة دلالية مكثفة، تضطر إلى تقديم شخصياتها من خلال أفعالها المباشرة أو إشارات سرديّة مقتضبة لكنها محمّلة بدلالات عميقة، وهذا يتطلب قدرة عالية على توظيف (الإظهار Showing) بدلًا من (الإخبار Telling)، بحيث لا يضطر الكاتب إلى تفسير كل شيء للقارئ، بل يترك للغة وظلال المعاني أن تقوم بهذا الدور.

وهكذا تصبح القصة القصيرة أنموذجًا للسرد البلاغي المركز الذي يعمل وفق استراتيجية محسوبة لتوصيل المعنى بأقصى درجة من الكثافة، إذ يكون كل عنصر، من اختيار الكلمات إلى بناء الجمل، محكومًا بمنطق الاقتصاد السردي والتأثير الدلالي المباشر.

   أما في أدبنا العربي، فيمكننا ملاحظة أن الرواية كانت تحظى دائمًا باهتمام أكبر من القصة القصيرة، ويعود ذلك ربما إلى قدرة الرواية على استيعاب التفاصيل المتعددة والمعقدة للواقع الاجتماعي والسياسي، وتقديم سرد طويل يعكس تعدد الشخصيات والأحداث، هذه الخصائص جعلت الرواية خيارًا مفضلًا لدى الكتاب والناشرين على حدٍّ سواء، خصوصًا في عصرنا الحالي.

لكن هذا التصور يبدو لي أكثر تعقيدًا مما يبدو، وذلك تماشيًا مع التغييرات التي يشهدها العالم اليوم، إذ إنَّ من المنطقي أن تكون القصة القصيرة أجدى من الرواية في عكس التحولات المتسارعة في أنماط القراءة لدى الجمهور العربي والعالمي، إذ أصبح هناك اليوم تحول كبير في الثقافة العالمية، واتجاهها نحو السرعة والكثافة في ظل الموجة الرقميَّة، لذلك فقد باتت القصة القصيرة أكثر انسجامًا مع هذه التحولات.

    إذ تتيح القراءة الرقميَّة للمستخدمين الوصول السريع للمحتوى وتصفّح النصوص في وقت أقل، فالقرّاء اليوم باتوا يفضلون النصوص التي يمكن استهلاكها بسرعة ولا تتطلب وقتًا طويلًا لفهمها أو تحليلها، مما يجعل القصة القصيرة مؤهلة وأكثر جذبًا في ظل هذا التحول، كما أن النمط السردي المكثف الذي تتسم به يتماشى مع أسلوب الحياة السريع للمجتمعات الحديثة التي تعيش في ظل ثقافة الاستهلاك السريع للمعلومات.

فضلا عن ذلك فإنّها تستفيد من تطور وسائل الإعلام والاتصال، مثل منصات التواصل الاجتماعي، التي تسهم في تعزيز حضور الأدب القصير وتقديمه لجمهور أكبر، هناك أيضًا اهتمام متزايد من قبل النقاد والكتاب في البحث عن أساليب جديدة في الكتابة، تواكب العصر وتلبي حاجات القارئ الجديد، مما يفتح أمامها آفاقًا واسعة للانتشار والتطور في المشهد الأدبي العربي.

إلى جانب ذلك، هناك موجة عالميّة تتجه نحو أشكال السرد المكثف، إذ بدأت الجوائز الأدبيّة الكبرى، التي كانت تركز تقليديًا على الرواية، في منح مساحة أوسع للقصة القصيرة، بل إنَّ بعض الروائيين الكبار قد عادوا إلى كتابتها، في إشارة إلى إدراكهم لقيمتها الفنيّة والتعبيريّة، ويمكن قراءة هذا التحول، من منظور بوث، ضمن استراتيجيات التأثير السردي، إذ تمتلك القصة القصيرة القدرة على تحقيق "تأثير بلاغي فوري" يفوق أحيانًا التأثير التراكمي للرواية.

لذلك فهي تبدو كنوع أدبي مؤهل للعودة إلى واجهة الاهتمام النقدي، ليس فقط بسبب تغير أنماط القراءة، كما أسلفنا، بل أيضًا بسبب قدرتها على تقديم سرد مكثف وعميق يتحدى افتراضات الرواية التقليدية حول الزمن والتطور السردي، لذلك، لا يمكن النظر إلى تراجع حضورها في العالم العربي إلا بوصفه نتيجة لعوامل ثقافية وتسويقية، وليس كإقرار بمحدوديتها الفنية، وتظل القصة القصيرة حاضرة في المشهد السردي، بما تمتلكه من مقومات البقاء والازدهار، خاصة إذا أُعيد النظر في طرق تسويقها ونشرها، بما ينسجم مع طبيعة العصر ومتطلبات القارئ الحديث.