د. منير الحايك
تربط رضوى عاشور في أثناء حديثها عن الرواية التاريخيّة بين التاريخ المجتمعي وبين الأديب، وكيف يقع حمله على ظهر الأديب أكثر من المؤرّخ وهو ما يستوجب أن يقدَّم عن طريق تقديم نسيج اجتماعي ممتد "فالروائي له قدرة كبيرة على اصطياد التفاصيل ومنها روائح المكان وجراح الزمن، وبفضل خياله الخصب يخرق كل الحدود التي يقف عندها المؤرّخ"، فهل خرَق تلك الحدود الروائي أحمد فال الدين في رواية "دانشمند" (منشورات ميسكلياني 2024)؟
عاشور تحدّثت عن المسؤولية التي تقع على عاتق المبدع، وتربط التاريخي من الأدب، وخصوصًا الرواية هنا، بتقريب تقريريّة التأريخ من وعي المثقفين العامة من المتلقين، من أجل حثّهم على التفكير والشعور وإثارة التأمل والأحاسيس، تلك التي لا يوصلها المؤرخ، وهي بالفعل ليست من حقه، فعلم التاريخ، علمٌ، في نهاية الأمر.
بأسلوب أدبي محبوك وسلس وقويّ من دون هنات أو تقصير، وبدراسات وتمحيص وتتبّع عن دراية وقراءات وتعمّق، يحكي لنا فال الدين عن حياة الإمام الغزالي، دانشمند، والتي بالفارسية "دانش" أي العلم أو المعرفة، و"مند" وتعني صاحب أو ذا، فهي "صاحب العلم والمعرفة"، وهي صفة رافقت الغزالي حتى مماته.
لقد بدأت بأنّ أسلوب الرواية ولغتها لا يمكن النقاش حول تمكّن الكاتب من كل تفاصيله وتفاصيلها، وهو المحترف من دون شكّ أو التفكير بالشكّ، وبراعته في جعل المتلقي ممسكًا بخيوط الرواية الطويلة، من حيث عدد كلماتها وصفحاته، لهو أمر يُحسَب للنص وصاحبه، ولهو أمر لا يُستهان به، وليس سهلًا ممتنعًا، بل أقوى من ذلك بكثير، ولعل اللغة وكيف كانت مطواعة لتكون وسيلة الكاتب ليكتب على لسان أهل البلاد التي تنقّل بينها الإمام
الغزالي، ويكون أسلوب الحَكي مناسبًا للعصر وأهله، هي العنصر الأبرز والأهم في نص فال الدين. أعود إلى أنني
بدأت وأكرر أن قدرة الكاتب لا يشوبها ما يسترعي النقد والانتقاد، لأنني سأطرح أسئلة حول النوع وحقّ المبدع والتخييل اليوم.
الرواية حكت قصة الغزالي منذ طفولته يتيمًا عام 456 هـ، يقصد المدرسة وأخاه، ويتمنى الفوز بالدراهم الستين حتى لا تتزوّج أمه، في الطابران حيث نشأته، وحيث نبدأ بتتبع أحوال المذاهب ومن يتبعها، وكيف بدأ الخصام يؤدي إلى القتل والموت... وصولًا إلى مماته في الطابران أيضًا بين أفراد عائلته الصغيرة، زوجته وبنتيه عام 505 للهجرة. وقد قسِّمَت الرواية بحسب الأمكنة التي تنقّل بينها الإمام، "اليتيم"، و"دانشمند"، و"الهارب"، و"الناسك"، و"بقلبٍ سليم"، ورحلاته مع تعدد أسباب تلك الرحلات وتلك التنقلات بين البلدان، فمن الطابران خراسان إلى نيسابور فبغداد ومن بعدها دمشق مرورًا بالقدس ومن ثمّ بعد رحلات طويلة عودته إلى الطابران، مرورًا بأمكنة نعرف الأحداث فيها حيث الحكّام والوزراء وحيث الأساس في الأحداث التاريخية، كأصفهان وقصر الخليفة وغيرها.
عرفنا في الرواية الغزالي مراهقًا، ذكيًّا مقبلًا على العلم متميّزًا حافظًا ومحلّلًا ومبديًا آراءه حول علوم الدين، ومن بدعها أحد أركان علم الكلام، وتتبّعنا مسار حياته ومسيرتها، بكل ما رافقها من قبول ومن رفض، ومن تحديات ومن أزمات، وعرفنا الكثير من أسباب تنقله، وأسباب ما ألّفه من كتب، وأسباب ما وصلنا منه من مواقف تجاه الفرق الدينية، وتجاه الفلاسفة، وتجاه الحكّام والسلاطين، وعرفنا الكثير عن تفاصيل حياته، وهنا يأتي السؤال الملحّ؟ تلك التفاصيل في حياته الخاصة، إلى أي مدى يحقّ للمبدع وخياله الغوص فيها كما غاص فال الدين، وكما غاص وسيغوص غيره من المبدعين، وإلى أي مدى يحق للتخييل أن يقدَّم على التأريخ، وهل يحقّ للمبدع ادّعاء ما قد يكون مجرَّد قصص خيالية عن شخصية معروفة ومشهورة، لها تأثيرها في تاريخ العرب والمسلمين حول العالم، ولها أثرها في المذاهب التي ما زالت موجودة بكل تفصيلاتها وخلافاتها حتى اليوم؟
أبدأ مع ما نقله النصّ بأسلوب سردي سبق وتحدّثت عن قدرات الكاتب غير العادية فيه، ولكن ما الغاية من حَكي أحداث التاريخ، وما الجديد، سوى أنّ المثقف المبدع يأخذ على عاتقه تقريبها من المتلقي العادي والعامة، ولكن في بلادنا العربية، والفئات المستهدفة لهذا النص هم من أبنائها، كان طول النصّ برأيي عائقًا من وصوله إلى الجميع، فواجب المثقف، إن أراد أن يوصل نصًّا بأهمية "دانشمند" إلى الناس، أن يكون واقعيًّا في ما يقدّمه، لا أن يبدّي مشروعه النوعي وما تطلبه النُّخَب من المتلقين واللِّجان! والترفّع عن حاجات المتلقين العاديين، وهم برأيي من يحتاجون أن يتلقوا التاريخ من خلال السرد والمتعة التي ترافقه.
أما عن حقّ الروائي والمبدع بشكل عام أن يدخل من خلال الدراسات والتخييل إلى حياة الشخصيات التاريخية بكل تلك التفاصيل، فهو سؤال يبقى في خانة التساؤل، لأنّ الأمر يحتاج إلى نقاش، ولا أدّعي امتلاك الإجابة عنه، وخرق الحدود المطلوب الذي تحدّثت عنه عاشور لا بدّ من إيجاد بعض الحدود له!
أنهي مع أنّ النص مشغول باحترافية عالية، وبهدوء العالم والمؤرّخ، وبسلامة لغوية وعذوبة ألفاظ وأسلوب سلس، أعطى المقام مقاله بشكل لا غبار عليه، ولكن الذائقة قد تختلف من متلقّ إلى آخر، وقد أردّ ما حصل معي في أثناء قراءة الرواية، وعدم تعلّقي بها والاستمتاع بكل جميل قدّمته، إلى أنني من جماعة "تهافت التهافت" لا من جماعة "تهافت الفلاسفة"!