انتهى حُلم السلتي وأُغلِقت دفاتر دون يوسا

بغداد: مآب عامر
غيب الموت الأديب البيروفي- الإسباني ماريو فارغاس يوسا (1936–2025)، الحائز على نوبل للآداب لعام 2010, وعضو الأكاديمية الفرنسية سابقاً، في أول أمس الأحد بمدينة ليما، حيث وافته المنية عن عمر ناهز 89 عاماً.
بهذا الفقدان، يطوي العالم صفحة من ألمع فصول الأدب الحديث، الذي صاغه يوسا بجرأة نادرة، وهو يحول الرواية إلى سلاح ضد الاستبداد ومرآة لكوارث التاريخ.
بداية مشوار طويل
إذا كان الأدب اللاتيني قد ارتفع بأسماء مثل غابرييل غارسيا ماركيز وخوليو كورتاثار، وكارلوس فوينتس, فإن يوسا ظل صوتاً فريداً يزاوج بين السرد الفني والتفكيك النقدي للسلطة.
ويقول الناقد والمترجم أمجد نجم الزيدي: رحل عن عالمنا، واحد من أكثر الكتّاب والمثقفين إثارة للجدل في الساحة الأدبية والفكرية المعاصرة، ليس فقط لنتاجه الإبداعي الغزير والمتنوع، بل لما يمثله من نموذج للمثقف الذي يعبر حدود الكتابة الروائية نحو الحضور في الفضاء العام، والتأثير في الرأي العام والسياسات الثقافية والاجتماعية، يتجلى الطابع الإشكالي في شخصية يوسا من خلال مسيرته الفكرية المتقلبة، إذ بدأ حياته ككاتب يساري متحمس، مدافع عن الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية، قبل أن يتحول تدريجياً إلى تبنّي خطاب ليبرالي، بل ويصطف في أحيان كثيرة مع المؤسسات الليبرالية الغربية في نقد الأنظمة الاشتراكية والدول ذات النزعة القومية، وهو ما جعله عرضة لاتهامات بالتخلي عن قضايا شعوب العالم الثالث وميوله نحو التبرير الأيديولوجي للنظام الرأسمالي العالمي.
ويضيف الزيدي: لم يكن هذا التحول عارضاً أو سطحياً، بل ارتبط بنسق فكري متكامل عبّر عنه في مقالاته ومحاضراته، إذ يرى في الحرية الفردية القيمة العليا التي ينبغي ألا تُضحى من أجل أية شعارات جماعية أو سرديات كبرى، سواء أكانت ماركسية أم قومية، لكن مواقفه هذه لا تنعكس بشكل مباشر في رواياته التي تظل وفية لجوهرها النقدي، وتعمل على تفكيك بنى السلطة، والكشف عن آليات القمع والتواطؤ الاجتماعي والسياسي، كما في "حفلة التيس" و"البيت الأخضر" وغيرها.
ويتابع: لذلك، فإن يوسا لا يمثّل فقط مثقفاً مشتبكاً مع قضايا عصره، بل يُجسد كذلك صورة المثقف الليبرالي الذي يثير نقاشاً حاداً حول حدود الالتزام، وموقع المثقف بين النقد الأخلاقي والسياسي، إنه المثقف الذي لا يمكن احتواؤه في قوالب ثابتة، والذي تظل مواقفه مثار جدل بين مؤيد يرى فيه صوت العقلانية في زمن الشعبويات، ومعارض يراه صوتاً مأزوماً لليبرالية المتأخرة.
تناقضات الهوية
بدأ ماريو فارغاس يوسا مسيرته المهمة برواية "المدينة والكلاب -1963"، والتي هزت بلدة بيرو بعنفوانها النقدي للمؤسسة العسكرية، مما أدى إلى حرق نسخها العلني وملاحقة كاتبها. لكن تلك الشرارة الأولى كانت بداية مشوار طويل، حول فيه يوسا الرواية إلى فضاء لاستجواب الثوابت, من تناقضات الهوية إلى هشاشة الديمقراطيات أمام إغراءات الديكتاتورية.
من جهته يرى الأديب والكاتب باقر صاحب أن رحيل الروائي والناقد والبروفيسور البيروفي ماريو بارغاس يوسا يشكل خسارة كبيرةً للأوساط الأدبية العالمية، فهو قامةٌ كبيرةٌ في النقد والإبداع والبحث الأكاديمي، وهو أحد كتّاب جيل الازدهار الأدبي في أميركا اللاتينية، الذين نشطوا منذ منتصف القرن الماضي، وضمّ ماركيز وإيزابيل ألليندي وكارلوس فوينتس وخوليو كورتاثار، وهؤلاء عمالقة أدب الواقعية السحرية أيضاً، التي تأثّر بها الكثير من كتاب القصة والرواية في العالم أجمع.
ويقول باقر: لقد حظي بارغاس يوسا بشهرةٍ عالميةٍ في ستينيات القرن الماضي منذ صدور أولى رواياته؛ المدينة والكلاب، والبيت الأخضر، وحديث في الكاتدرائية. وتناولت رواياته مضامين متنوعة، مثل ألغاز جرائم، وموضوعاتٍ تاريخيةٍ وأحداثاً سياسية، وتحوّل عديد أعماله إلى أفلام، مثل: بانتاليون والزائرات، والعمّة جوليا وكاتب النصوص. حصل على عديد الجوائز، أهمها جائزة ثيرفانتس (1994)، جائزة نوبل في الآداب عام (2010).
ويضيف: عُرف عن يوسا بكتاباته الفنتازية الساخرة، أو ما سُمّيت بالكوميديا السوداء، مثلاً، رواية "العمة جوليا وكاتب السيناريو"، المُترجمة إلى العربية عام 2023، وهي تُعدُّ سيرةً ذاتيةً لـ "بارغاس يوسا". وتتناول حنين يوسا إلى ليما – عاصمة البيرو- في خمسينيات القرن الماضي.
ويقول: في "قصة مايتا" يتناول يوسا التطرّف الثوري في دول العالم الثالث، البيرو، نموذجاً، ومآل فشل هذا التطرف وهزيمة عرّابيه، وانزلاق موطن الروائي إلى أحداث عنفٍ وحربٍ أهليةٍ حدثت في البيرو بين عامي 1982 – 2000.
ويشير إلى أن يوسا من الكتاب العالميين الذي اهتمّوا بالشأن العراقي، فقد قام برحلةٍ إلى العراق مع ابنته المصوّرة الصحفية مورجانا، استمرّت اثني عشر يوماً فقط، في النصف الثاني من عام 2003، وخرج عن هذه الرحلة بكتاب (يوميات من العراق) ولاقى وقت صدوره عام 2004 اهتمام العديد من وسائل الإعلام العالمية.
جرائم السلطة
لم يكتفِ يوسا بكونه روائياً، بل كان فيلسوفاً يكتب بقلم صحفي. في "حديث في الكاتدرائية" عام 1969، غاص في دهاليز السياسة البيروفية عبر حوارات معقدة تكشف فساد الأنظمة آنذاك.
وفي رواية "حفلة التيس" عام2000، جرب القارئ مرارة العيش تحت حكم تروخيو في الدومينيكان، مظهراً كيف يُنتج الخوف طغاة ويحوّل الضحايا إلى شركاء صامتين.
أما روايته الأخيرة "خمس زوايا" عام 2016، فكشفت عن تشابك الإعلام الفاسد مع السياسة، فظل قلمه حتى آخر أيامه مرصداً لجرائم السلطة.
من جهته, يقول الناقد د. نصير جابر: تبدو أخبار الموت – التي من المفترض أن تكون عادية ومألوفة- مغايرة، وذات طبيعة ديالكتيكية إذا ارتبطت بمن تركوا (حياة) أخرى صاخبة على متن (الحياة) الحقيقية التي نعيشها، ممّن سكبوا أرواحهم في كأس المرارة ليكون سائغاً لنا. ومنهم صاحب الاسم الطويل (خورخي ماريو بيدرو بارغاس يوسا) الذي كنا نختصره دائماً بـ (يوسا) والذي لا يمكن اختصاره أبداً.
ويضيف جابر أن "الرجل الذي عاش حياة حافلة وكتب بصدق وحرارة تضارع صدق مناخ بلاده، يوسا.. كتب عن نبض لا يكاد يبين، لكنه تحول مع سرده الساحر إلى نبض هادر.. حتى أرغم نوبل أن تأتيه طائعة وتعترف بأنها إزاء حالة خاصة".
ويتابع: كنت دائماً أتساءل هل وصل لنا نبضه الحقيقي من خلال الترجمة، أشك في ذلك.. ولكن من المؤكد أنه وصل إلى أصقاع المعمورة.. وسيكون إلى الأبد أحد أهم كتاب هذا العالم المتقلب.
ويشير جابر إلى أن يوسا أوصى أن يحرق جثمانه لكي لا يترك منه أثراً مادياً.. هو يريد أن تبقى كلماته فقط.. كلماته التي تطوف حول العالم منذ سنوات. وياله من أثر.
الأدب ليس ضرورة أخلاقية
لم تكن معركة يوسا ضد الظلم حبراً على ورق. ففي عام 1990، خاض المعترك السياسي مباشرة كمرشح رئاسي في بيرو، لكن هزيمته أمام ألبرتو فوجيموري, والتي سردها في سيرته "السمكة في الماء" عام 1993, برهنت له أن السلطة قد تغري بالانحدار، لكن الكلمة الحرة تبقى الأبقى. هكذا واصل، حتى أيامه الأخيرة، كتابة المقالات التي يحذر فيها من تآكل الثقافة الجادة، مكرساً فكرته بأن الأدب ليس ترفاً، بل ضرورة أخلاقية.
ويتحدث الكاتب والشاعر محمد جلال الصائغ عن رواية "السمكة في الماء" لماريو فارغاس يوسا, قائلاً : إن "سمكة في الماء" هو أكثر من مجرد سرد لوقائع, إنه العمل الذي يُعيد تعريف العلاقة بين الحياة والأدب. وأنا كمهتم بأعمال ليوسا، دفعني هذا الكتاب لاكتشاف خلفيات أعماله التي هزت العالم الأدبي والثقافي. وخاصة للمهتمين بالتاريخ السياسي لبيرو، فقد وجدت تحليلاً ثرياً لفترة حاسمة. كما أن سرده كان يجمع بين العمق النفسي والجمال اللغوي.
ويضيف الصائغ, أن: كتاب "سمكة في الماء" الحائز على جائزة نوبل للآداب بالنسبة لي هو نافذة استثنائية تطل على عوالم الكاتب الشخصية والإبداعية. حيث ينسج ليوسا خيوط سيرته الذاتية بحرفية السردي الذي أَلِفَه قراؤه، بمزيج من الذكريات الحميمة وتحليلات عميقة لأبرز محطات حياته، منذ طفولته المفعمة بالمفاجآت حتى تجاربه السياسية الجريئة.
ويتابع الصائغ: إذ لا يكتفي الكتاب بأن يكون شهادة على حياة ليوسا، بل يُعيد تشكيلها عبر منظور فني. حيث يرسم الكاتب بورتريها لسنوات التكوين، بدءاً من لقائه المفاجئ بوالده والذي ظنه ميتاً, وصولاً إلى مغادرته بيرو نحو أوروبا، حاملاً أحلامه الأدبية.
ويرى أن الكتاب ينقل القارئ إلى منعطف مصيري, من حيث تجربة الكاتب في خوض معترك السياسة عبر ترشحه لرئاسة بيرو, وبروح نقدية، يحكي ليوسا عن أحلام الإصلاح التي اصطدمت بواقع معقد، وانتهت بهزيمته أمام ألبرتو فوجيموري.
ويتميز أسلوب ليوسا في الكتاب, وفقاً للصائغ, بجمع الواقعية الشعرية والصراحة الفكرية. فهو لا يروي الأحداث فحسب، بل يُفكك دوافعها ويُضيء على التحولات التي شكلت فكره وأدبه. من خلال ذكرياته عن سنوات الفقر والصراع مع السلطة الأبوية، وحتى تحليله لانخراطه في السياسة، يصوغ الكاتب حواراً بين ماضيه وحاضره، مُظهراً كيف تُخلَق الرواية العظيمة من شظايا الحياة.
ويشير الصائغ إلى أن رحيل يوسا هو خسارة لروح حاربت بالكلمات حتى النفس الأخير, وأن ما أعجبني فيه هو شجاعته, فلم يغيّر قناعاته, بل كان ينتقد نفسه, ولم يسجنها في قالب واحد, وتحول من كاتب كلاسيكي إلى ناقد حاد, تجاه الزيف الذي يحيط بنا, حتى علاقته بالقارئ كانت مختلفة, فهو قد يكتب له ما لا يرتاح له دائماً لكنه يجبره على مواصلة القراءة.
رحل يوسا تاركاً مكتبة من الأرواح الورقية التي تسكن أبطال رواياته كالجنود المُتمردين في "المدينة والكلاب"، ضحايا تروخيو في "حفلة التيس"، والصحفيين الفاسدين في "خمس زوايا". هؤلاء لم يموتوا، بل صاروا شهوداً على قرن من التناقضات الإنسانية.
وبينما يغيب الجسد، تبقى كلماته حلقة وصل بين الماضي والمستقبل، وتذكرنا أن الخيال, كما رأى يوسا, ليس هروباً من الواقع، بل طريقاً إلى أعمق حقائقه.