صيدنايا.. سرد الواقع بدرجة المأساة

ثقافة 2025/04/15
...

  وارد بدر السالم  


"يا حاجّة لم نجد ابنك هنا. على الأغلب أنه مات" 

(امرأة تبحث عن ولدها في سجن صيدنايا) 

** 

المكان أحد عناصر السرد ومكوناته الأساسية، لا تخلو رواية وقصة من هذا العنصر، ولم نتعرّف بعد على أي نص يخلو من هذا المكون الأساسي لضبط السرد، حتى الخيال الفائق يستحضر المكان ويثريه بالأحداث والشخصيات وقد يعوّم فيه الزمن. فالأمكنة السردية المختلفة، المتعددة، هي روح النصُّ الفاعلة، فمن خلالها يجري التاريخ الاجتماعي والسياسي والنفسي. وعبره تنمو الشخصيات ويتكثف الزمن فيها، ليتحول الى عنصر ومكوّن سردي آخر. يوطّد صورة المكان، ويخلق تفاعلًا فنيًا مطلوبًا. 

عندما يكتب تولستوي "الحرب والسلام" نعرف بأنّ ساحات المعارك هي الأراضي الروسية بعد اجتياح نابليون لها. ودلالات المكان الروسي في تلك الحقبة العسكرية معروف تاريخيًا ونفسيًا واجتماعيًا. حتى بدت الرواية تاريخيّة أكثر من كونها فنًا سرديًا لقيمة وأهمية توثيق الأحداث الحربيَّة فيها. وحين يكتب نجيب محفوظ عن القاهرة وحواريها، يرسم لنا المكان بدقة احترافية بما فيه من شخصيات شعبيّة، وعندما يحوّر ماركيز بخياله العجائبي المكان الواقعي الى آخر افتراضي متخيل نستعرض معه الأمكنة الشخصية لدولة كولومبيا ومدى تأثيراتها الاجتماعية والنفسية على الشخصيات الكثيرة التي واكبت القرية والمدينة والدولة بعُصابها الديكتاتوري. وهكذا نرى المكان؛ حتى وإن في الخيال السردي؛ له قدرة سردية بالغة في ارتكاز النص على أرضية اجتماعية وسياسية وأخلاقية وشعبية. 

عندما يخرج سجن صيدنايا السوري من أنفاق الديكتاتورية بفعل خارجي، ويفضح الوجود السلطوي السوري بالطريقة التي انفتح فيها ذلك السجن المخيف انفتحت معه صور مرعبة ومثيرة للدهشة والخوف والقسوة والظلم والتمادي على الإنسان. فالسجن بتفاصيله الكارثيّة، هو مكان يمثل أعلى طاقة سلبيّة يمكن أن توصف، فسرديات السجون أشبه بالخيال وأقرب له من الواقع. يمكن بعد اكتشاف الأهوال فيها ونسمع حشرجات الموت والصرخات المتتالية لنساء ورجال وأطفال وصبيان. ولا شك بأن الشهقات الأخيرة لهم مكتوبة على الجدران الكالحة، بين الروائح القذرة. والأشباح الميتة هنا وهناك. 

"السجن الأحمر" أحد فروع سجن صيدنايا. إنّه مكان روائي بامتياز. مكان المأساة الجماعيَّة والموت المظلم والغياب الأخير. وفّر لأدباء سوريا، ومعهم الأدباء العرب من روائيين وقاصّين وشعراء وفنانين وجماليين آخرين، فرصة غير معهودة لفتح صناديق أكبر مسلخ بشري في تاريخ سوريا، وأكبر ملحمة كارثية لا يمكن تصديقها لو لم نرها ونتمعن في تفاصيلها المجنونة عن قرب. لم يكن ذلك المكان إنسانيًا. لم يكن كأيِّ سجن في العالم، إنما كان مثرمة بشرية وحوضًا سامًا لتذويب الأجساد البشرية المعذبة، ومكبسة ضاغطة على الحياة والأحلام والحرية وجمال الحياة. ولا نعرف تحت أية فاصلة وظيفيَّة وجد الجلّادون متعتهم الشاذة في  سلوكهم الوحشي وكيفيّة ولائهم لديكتاتور شاذ هو أيضًا. فما تخلّف عن مشاهدات مروّعة لسجن صيدنايا حتى الآن، أكبر من أي سرد موصوف في الحياة السورية، لكن بما أن أي دكتاتور في العالم لا يخلّف وراءه إلّا العار والنقمة الشعبيَّة على سنوات حكمه السوداء. فلا بدَّ أن ينكشف في ظرف لا يتوقعه. بل حتى التاريخ بما فيه من أقزام متسلّطين، كالنمرود وفرعون والحجاج لم ينجحوا بأن يبقوا الى الأبد من دون عقاب وعار وفضيحة. فالتاريخ غير محايد، والمنتصر يكتب ما يشاء. والمهزوم لا يمتلك فصاحة التبرير التي يمكن لها أن تكون أحد العوامل التي تُقنعه شخصيًا بالهزيمة. 

نصوص السجون ليست مغلقة كما هي حال السجون الحقيقيّة. وليست معقدة كما حال السجون الفعلية المتكونة من طبقات عليا وسفلى. بل هي في تمام الكشف عن ظلامها ورائحتها وعذابها وسوئها وجذامها وأمراضها المختلفة. إنها نافذة سردية مهمة لفضح الجريمة وتداعياتها المخيفة في البنية الاجتماعية. كشْف المستور عن السلطة الوحشية التي تمارس إسقاطاتها المخزية على الرعية. والسجن الأحمر في صيدنايا السوري أقرب الأمثلة الى ذاكرة العالم، لِما فيه من قسوة فريدة في إخراج الجسد من منظومته الإنسانية، وإحاطته بأنواع كثيرة من التعذيب ومضاعفة الألم فيه، وسحقه في المكابس الضاغطة، أو رميه في محرقة، كما تُرمى النفايات فيها. 

إذا كان الجوع فوق الخيال، فإن التعذيب القاسي يفوق الخيال الى ما ورائه، والرواية السورية والعربية التي تتعذب لتصل الى فاصلة سرية في تلك السجون الدامية، يكفيها أن ترى وتتأمل وتفحص سجن صيدنايا فقط، لِما فيه من أهوال لا يستوعبها العقل البشري. ومن ثم فإن السرود الروائية والشعرية والقصصية تقف حائرة، تراوح في المكان وتقرؤه عشرات ومئات المرات، وتستوفي قراءة أراشيف السجون في تاريخيتها القديمة، لتوازن في الشعور الإنساني المشترك هنا وهناك. لترى الذي لم تره وتكتب الذي لا يُكتب.

وهي تتقصى ما تبقى من أشياء فردية في الزنازين والمهاجع والسراديب المظلمة والأنفاق الغائرة في الأرض. 

أدب السجون له رائحة خاصة بنكهة العذاب والتعذيب والتعنيف والتغييب والقسوة، وحينما نقرأ رواية "السجينة" للمغربية مليكة أفقير نشعر برهبة السجن الصحراوي عندما يتحول الى منفى. وقريب من هذا مذكرات المطران كبوتشي في السجن. وشرق المتوسط لعبدالرحمن منيف من هذا النوع الأدبي، ومثله عزيز نسين في " سرنامة"، والطاهر بن جلون في روايته " تلك العتمة الباهرة" وربيع جابر في " دروز بلغراد" ومذكرات نوال السعداوي في سجن النساء. 

أدباء سوريا من روائيين وروائيات وقاصين وقاصات وشعراء وشاعرات ومسرحيين وفنانين ومشتغلي جماليات، معنيون في تفريق وتفكيك المشاهد الكارثية المثيرة للحزن والاحباط، وهي ترى مواطنيهم كأفراد عزّل يكابدون في عالم السجن المتوحش، فثمة صبيان ولدوا في السجن، ونساء مغتصبات يخجلن من حلم الحرية المجهولة. ورجال فقدوا الذاكرة؛ لا يعرفون أين هم وفي أي زمن. وغيرهم لامسهم الجنون. وآخرون يموتون واقفين إذ لا مجال للموت نومًا أو جلوسًا. نساء يتغطينَ بجثث صويحباتهنّ اتقاءً لبرد المدينة. حتى صار الموت في السجن هو الأمنية الوحيدة للجميع، بدلًا من الوصول الى الحرية. فقانون السجن الذي فضح السلطة هو أن يقترحوا عليك التهمة فتوافق عليها، وتبصم بالأصابع العشر على أنك مدان ومتهم وضدهم. لهذا فإن سرديات السجون في العالم عليها أن تبلغ كمالها الفني لفضح الحياة المدفونة تحت الأرض وفي الغرف المغلقة للسجون.