بغداد: ابتهال بليبل
"نحن هنا لا نسكب الحبر، بل نكتب به الحياة" من هذه الكلمات المعبقة بالشعر، افتتح الشاعر خالد الحسن أصبوحة شعريَّة استثنائيَّة في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، أدارها بحنكة احتفاء بالقصيدة، وبحضور نخبة من المهتمين بالشعر والثقافة.
وفي رحاب الكلمة تحلق الجمهور الحضور حول المنصة، حيث اجتمع الشعراء كل من "نضال العيّاش، محمد السويدي، قاسم العابدي، عبد الله النائلي" ليطارحوا المتلقين إيقاعات القصيدة وأسرارها، برفقة الناقدين "د. سعد جرجيس، د. رحمن غركان".
وتحت سقف الثقافة من صلاح الدين حيث يأتي الشعر والحب، ومن الديوانية وردة الجنوب الساهرة على شرفات القصيدة، ابتدأ الشاعر نضال العيّاش القراءات، قائلا في بعض منها: (ما بين قوسين/ التأمّلُ محنتي/ وفضيحتي وأنا المعلّقُ في التفاصيل/ التي ترتجّ في هذي الثياب/ وبين قوسينِ/ احتشادُ مفاتنٍ/ جزرٌ ثلاث/ والخليج/ وشاعر دفع السفينة/ ثم خرَّ متيّمًا/ كيما يموت على تخوم الياسمين/ هل تعلمين؟/ أناْ من رأى/ يا كلّ شيء تذكرين؟/ إني أحبك هكذا/ وأخاف يوماً تكبرين ...!).
أما الشاعر محمد السويدي فيقول في بعض من قصائده: (ولأنَّ هذي الأرض غير مريحة/ يحتاج نفسيًّا إلى جلَسات/ الحُزن كان صديقَه/ غنَّى له (لا يا صديقي) في الثمانينات/ لم يقتنع بإلهة مكشوفة/ بل كان يعبد ما وراء اللات/ وهنالك امرأة تجول برأسه/ فتقوده لنهاية الأبيات/ بشموخٍ استلقت على الكرسيّ/ كي يأتي بها الرسام في لوحات).
من جانبه شارك الشاعر قاسم العابدي بعديد من القصائد، منها: (حتّام ترثي نخيلًا في العناوين/ وتملأُ الوقت دمعاً دون تلقينِ/ ألم تهزَّ جذوع الضيم تنكثها/ لكي ترتّش أسفار المضامين/ قميص معناكَ لا تطمعه في أمل/ إنّ السنابل أموات الطواحينِ/ فبع بقاياك في أسواق لوعتنا/ واستعبد النّبض في عودٍ وتلحين/ بلّل وريدك بالأحزان محتفلاً/ من لذّة الخلق حتّى نشوة التّينِ/ واجمع شظاياك من أوطانك النُثرت/ منذ احتلال الأسى أشجار زيتونِ/ سكين مأواك بالآهات تشحذه/ لكي تصحّح ميلًا بالموازينِ/ لكنّ وجهك من في الليل يستره/ كي يُظهر الصمت في وجه السّكاكينِ/ كرّاسة الفقد فوق الخدّ تفرشها/ لكي تبشّر في أبواب سجّين..).
وقرأ الشاعر القادم من الديوانية، عبد الله النائلي: (الجنود يسيرون نحو المقابر/ بعقاقير هلوسة/ وحشيش يهرّبه كاهن في الصباح/ ويُفتي بأن يمضغوه قبيل صلاة العشاء/ لكي يبتنوا جنّة من تراب السَّواتر/ وحدهُ الفيلسوف يحدِّق فيهم/ ولا يستطيع الصُّراخ فيهمس: أولادي الطيِّبين/ اخرجوا من محارق أوهامكم سالمين/ ولا تعبأوا بالضَّمان الذي يُسكر الميِّتين/ ولا بالجنان التي تتفجَّر فوق جثامينكم/ لا تسيروا وراء السَّراب/ فلا ماء إلَّا الذي في الجرارِ/ ولا تثقوا بالهزيمة والنَّصرِ/ لا نصر إلَّا لتاجر ابتاعكم قبل أن تدخلوا الحرب/ والفيلسوف يهدهد زوجةَ جنديّ اختار أن يُدخل الحرب في ذكريات فساتينها/ - سيعود/ -ولكنّهُ يا صديقي لم يصغ يوماً إليك/ - سيصغي إذا عاد/ - لكنَّه لن يعود/ ويحاور طفلًا يتيمًا أبوك أنا/ لك عكّازتي/ ودمى حكمتي لك/ لا تبكِ يا ابني/ كلانا سيهزأ بالحرب/ حتى يعود أبٌ/ ربما سيكون أباكَ/ وحتى يعود الجنود).
وقد قدمت الورقتان النقديتان للباحثان د. سعد جرجيس ود. رحمن غركان مقاربات متكاملة تظهر كيف يعيد الشعراء تشكيل الواقع عبر أدواتهم الجمالية، وتوقفتا أيضا على دور النقد في كشف الطبقات الخفية للقصائد، سواء تلك المرتبطة بجذور المكان أو بالأسئلة الوجودية للإنسان المعاصر. وركز د. سعد جرجيس في تحليله النقدي على الجغرافيا وتأثيرها في تشكيل التجربة الشعرية للشاعرين (نضال العياش ومحمد السويدي)، كما وحلل انعكاس الجغرافيا على السلوك الإنساني وعلى المنجز الأدبي، وتوسع في مفهوم السرد لدى الشاعرين، مشيرًا إلى أنّه لا يقتصر على المستوى الأدبي، بل يمتد ليشمل كل أشكال الحكي في المنطقة، ما يضفي طبقات دلالية على القصائد.
أما د. رحمن غركان فانطلق من مقاربة فلسفية لقراءة أعمال الشاعرين (قاسم العابدي وعبد الله النائلي)، إذ ركز على البناء الفلسفي للرؤية الشعرية، وكيفية تحويل الأفكار إلى صور شعرية تعكس رؤية وجودية للعالم، مع تركيز على ثيمة "الخروج من العزلة" كرمزٍ للتواصل الإنساني. كما وتناول غركان الإحساس بالزمن والواقع، وحلّل مقاطع من قصائد الشاعرين التي تجسد الزمن، حيث يظهر الزمن كفاعلٍ مؤثرٍ في تشكيل الواقع، وكذلك تنوع الإيقاع في القصائد، وكيف يعكس الأسلوب تحولات المشاعر الداخلية.