نافذة بيع العملة، أو ما يطلق عليها خطأً (مزاد بيع الدولار) التي يقوم بها البنك المركزي العراقي منذ عدة سنوات، في إطار سياسته النقدية، تمثل احد اهم الملفات التي يثار حولها الكثير من الكلام، فهناك من يشيد بالفكرة ويعدها من الإجراءات المهمة جدا من جهة المحافظة على قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الذي يمثل “بارومتراً” حساسا لقياس قوة العملات الوطنية، بالمقابل، هناك من يتحدث بسلبية مطلقة، عن نافذة بيع العملة، عادّاً إياها باباً من أبواب تخريب الاقتصاد والفساد وتهريب العملة، إذا ما تحدثنا عن مليارات الدولارات التي تباع شهرياً عبر تلك النافذة، وآخرها في شهر أيار الماضي، اذ ناهز حجم المبلغ المُباع الأربعة مليارات دولار، حسب مؤشرات الجهاز المركزي للإحصاء، وبحسب ما يعلن عنه البنك المركزي العراقي بنحو مستمر.
وبصرف النظر عن رأي الفريقين، المؤيد والمعارض، لآلية بيع الدولار، فلو أخذنا الحالة بتجرد، وناقشنا القضية ببعدها الاقتصادي، فيمكن القول، ان تجربة بيع العملة، أسهمت بنحو كبير في المحافظة على قيمة الدينار، الذي كان يعاني كثيرا من عدم الثبات، ودائما ما نجد قيمته تتهاوى، مقابل الدولار، لدرجة ان الناس في زمن مضى كانوا يحولون الدينار الى دولار، لكي يطمئنوا على حالهم.
ولكن بعد الشروع بعملية بيع العملة، استقر حال الدينار، ولم يعد الناس يفكرون بتحويله الى دولار، وباتت التعاملات بالدينار اكثر رواجا واتساعاً، فهو لم يتجاوز قيمته الحالية المستقرة عند 1200 منذ عدة سنوات، وهذا بحد ذاته يمثل دعماً لقوة الاقتصاد الوطني، فقوة العملة وثباتها تمثل مؤشرا إيجابيا مهما لمتانة الاقتصاد، وتسعى الدول بقوة بهذا الاتجاه من أجل المحافظة على عملاتها الوطنية مستقرة، من جانب، ومن جانب آخر فإنَّ مزاد بيع العملة كان له الدور البارز في كبح جماح التضخم في العراق.
فقبل ذلك، كانت مؤشرات الجهاز المركزي للإحصاء تتحدث عن ارتفاع مجنون في مؤشر التضخم السنوي، يتجاوز الـ (20 بالمئة) احياناً، ومثل هذا الارتفاع، كان يهدد بانهيار العملة ومن ثم تردي مناخ التنمية بنحو عام، ولكن الملاحظ، ومنذ الشروع ببيع الدولار، شهدت مؤشرات التضخم استقرارا في معدلاتها لتقف عن حاجز الـ (2 بالمئة)، أو دون ذلك، بل في بعض الأشهر نجد انخفاضا في المؤشر، مع الإشارة الى انه ليس من السهولة بمكان ان نتحدث عن انخفاض في التضخم على مستوى العالم، فدائماً هناك ارتفاع، نتيجة تزايد الطلب على الكثير من الأقسام والخدمات، مع زيادات مضطردة في أعداد السكان، وتنامي حجم الاستثمارات.
يضاف الى ماتقدم، فإنَّ عملية بيع العملة كان لها الدور الكبير في توفير التغطية “الدولارية” لحجم الاستيرادات السلعية على مدى الأعوام الماضية، ولو لم تكن النافذة مفتوحة، لحدثت الكثير من المشاكل على هذا الصعيد. ولكن السؤال الذي يثار هنا، ومنه نعبر الى الضفة الأخرى، حيث يتواجد المنتقدون للعملية، هل كانت هذه التغطية “الدولارية” سليمة 100 بالمئة؟، بالتأكيد ان الإجابة ستكون بالنفي، لاننا نتحدث عن حجم استيراد هائل جدا، يصل الى اكثر من 50 مليار دولار سنويا، فهل من المعقول ان عملية استيرادية بهذه السعة، ستكون خالية من التلاعب والسلبيات؟، وهذا الأمر مؤشر لدى البنك المركزي ولدى جهات اخرى، فهناك بعض الاستيرادات لم تكن حقيقية، إنما هي مجرد أوراق وإيصالات، يتم تقديمها للحصول مقابلها على الدولار، الذي ربما يذهب في مسارات اخرى.
وفي جانب آخر، وهذا أيضا جانب من جوانب النقد للعملية، هو ان بيع العملة تسبب بنشوء مصارف، اعتمدت في صيرورتها على النافذة، فكانت اشبه بالدكاكين، التي تقوم بشراء مادة ما من سوق الجملة، ومن ثم تقوم بيعها بالمفرد أو التجزئة، وبات وجود هذه “المصارف” مرتبطاً باستمرار بيع العملة، فإن توقف المزاد، توقفت، وهذه تمثل مشكلة بحد ذاتها، لأنَّ وجود مثل هذه الدكاكين الطارئة على المشهد النقدي والمالي في البلد، تسبب بتشويه صورة المصارف والبنوك الرصينة، وتزعزع الثقة بين المواطن وتلك المصارف، وهذا أمرٌ يمكن معالجته، إذ شرع البنك المركزي بالتعاون مع رابطة المصارف الخاصة العراقية بمتابعة هذا الملف، واتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تكاثر دكاكين من هذا النوع.
وعندما نتحدث عن إصلاح الحال، والأخذ بنظر الاعتبار كل ما يثار من انتقادات حادة لعملية بيع العملة التي يقوم بها البنك المركزي، لدرجة ان هناك مَن يصفها بنافذة للفساد وهدر المال العام، من دون ان يضع في حساباته الجوانب الأخرى، ومن بينها، فضلا عما ذكرناه، تأمين حاجة المواطنين العراقيين الذي يسافرون الى بلدان اخرى لأغراض السياحة والعلاج، وإيقاف التداول في السوق السوداء، فالأمر يتطلب القيام بمعالجات واجراءات من شأنها تشذيب وتهذيب نافذة بيع العملة مما لحق بها من إشكالات لا يمكن غض الطرف عنها.
فقد تتطلب الحال، اللجوء الى آليات اخرى مختلفة تماماً عن المتبعة اليوم، والحال تستدعي أيضا، ان تكون هناك مطابقة واقعية بين ما يتم بيعه لتغطية الاستيرادات، وبين ما يدخل البلد من سلع ومنتجات مستوردة عبر التنسيق مع المنافذ الحدودية، والجهات ذات العلاقة.
وفي نهاية المطاف، من المؤكد انَّ حلولاً عملية ستكون موجودة لمعالجة كل سلبيات العملية، بهدف المحافظة على المال العام، قبل ان نتحدث أو نطالب بغلق نافذة بيع العملة في العراق.