احتكارات المستقبل.. صينية تملكها الحكومة
بانوراما
2019/07/12
+A
-A
بين هالدر
ترجمة: مي اسماعيل
صاعد الخلاف التجاري بين بكين وواشنطن بات على ممثلي ولاية ويست فرجينيا وقادة الأعمال فيها التريث (عند اللحظة الأخيرة) في مخططاتهم لاستقبال وفد من بكين شهر حزيران الماضي؛ (وهو أمر نادر الوقوع). لكن تلك الولاية الأميركية لم تفقد الأمل بعد؛ ولا تزال تتفاوض مع الحكومة الفيدرالية لتفعيل صفقة رسمت مجرياتها أصلا أثناء زيارة ترامب الى الصين أواخر سنة 2017؛ فهناك الكثير هنا على المحك..
كان الزوار المرتقبون من شركة "الصين لاستثمار الطاقة، وهي مؤسسة الغاز والنفط التي وعدت بصفقة استثمارية لضخ الحياة ثانية لصناعة الطاقة المتعثرة هناك قيمتها 84 مليار دولار (مبلغ يفوق الناتج الإجمالي للولاية سنة 2017، البالغ 75 مليار دولار). يؤطر بريق الصفقة كيف أن مجموعة من المؤسسات العملاقة التي لا يكاد اسمها يُعرف خارج الصين باتت تتخذ بهدوء أدوارا مسيطرة دوليا على صناعات الطاقة والخدمات والبنى التحتية. وبينما ينشغل الغرب بالتهديدات الأمنية التي يمثلها لاعبو الاتصالات الحديثة من أمثال "هواوي"؛ تنبثق تلك الشركات الأخرى (وأغلبها حكومية) لتكون جهات الاحتكار العالمية للمستقبل.
قفزات تصنيفية مذهلة
خلال سنة 2010 كانت هناك 49 شركة صينية ضمن قائمة مجلة فورتشين-"500" (الترتيب السنوي لأكبر 500 شركة في العالم من حيث الإيرادات-المترجمة) مقارنة مع 139 شركة من أميركا. واليوم بات الاثنان يتحركان ندا لند؛ فخلال العام الماضي باتت للصين 120 شركة على قائمة الأسماء المميزة لأكبر شركات العالم المدرة للدخل، مقابل 126 شركة أميركية. تمتلك كلتا الدولتين اليوم ثلاث مؤسسات من بين أكبر عشر شركات، وقبل عقدين من الزمن كانت لأميركا خمس وليس للصين واحدة. وعلى خلاف الشركات الأميركية الكبرى؛ "وولمارت" تصنيفها الأولى عالميا و"أكسون موبيل" وتصنيفها التاسعة و"بيركشاير هاثاوي" في المرتبة العاشرة، فإن نظيراتها الصينية على رأس قوائم تصنيف الأرباح العالمي ليست أسماء معروفة عموما لدى الغرب، مثل: عملاق الخدمات "ستيت غريد" (بالمرتبة الثانية)، ومجموعة شركات الطاقة الكبرى سينوبك (بالمرتبة الثالثة)، و"شركة البترول الوطنية الصينية (بالمرتبة الرابعة). لكن ازدهارها السريع يرجح احتمال أن الجميع سيسمع عنها كثيرا (وكلها شركات حكومية) خلال السنوات المقبلة ، لم تكن أي منها ضمن الشركات الخمس وأربعين الكبرى عالميا قبل 15 سنة).
بالفعل فإن المجموعة المقبلة من شركات الاحتكار الصينية الواعدة باتت على الأبواب؛ فسبع من الشركات الثمان الأكثر ارتفاعاً التي تقع ضمن أحدث قوائم "فورتشين 500" هي صينية، ومن بينها عمالقة التقنيات المعروفة الخاصة "علي بابا" و"تينسينت" القابضة. لكن الشركة التي تقود هذا القطيع ليست سوى "شركة استثمار الطاقة الصينية" المملوكة للدولة؛ التي ارتفع تصنيفها العالمي 175 مركزا الى موقع 101، خلال السنة ذاتها التي كانت ويست فيرجينيا تأمل بإعادة إحياء قطاع الطاقة فيها.
العمل في مواقع صعبة
يقول "فيك سينغ" البروفيسور من جامعة رايرسون: "الدعم الحكومي أمر حيوي". تستفيد الشركات الصينية المملوكة للدولة من التشريعات والتغييرات الحاصلة عليها، والوصول غير المحدود الى التمويل الرخيص، ودرجات معينة من الحماية عبر قوانين منع المنافسة. وجميعها مميزات (كما يقول الخبراء) نادرا ما يستطيع نظراؤهم من الشركات الخاصة في الصين وخارجها مضاهاتها. وإذ يفسر هذا الارتفاع الحاد لتصنيف الشركات الحكومية الصينية عالميا؛ فهو يعني أيضا أنه مع استمرار اقتصاد الدولة الشيوعية بالنمو السريع فإن أكبر الشركات المُحتَكِرة مستقبلا ستكون مملوكة للدولة.
وقد باتت الحال هكذا بالفعل؛ إذ بلغت عائدات شركة "ستيت غريد" (أكبر المؤسسات العالمية للخدمات) السنوية 348 مليار دولار؛ أو ما يساوي الناتج المحلي الإجمالي لجنوب افريقيا، وأكثر من عائدات مؤسسات الخدمات الخمس الأكبر التالية لها في التصنيف مجتمعة! اشترت تلك المؤسسة الصينية ثاني أكبر مؤسسسات الخدمات في البرازيل، وحازت عقد إدارة "الشبكة الوطنية للفيلبين حتى سنة 2058. ولها حصص كبيرة في مؤسسات خدمات استرالية وبرتغالية.
أكبر ست شركات في العالم للهندسة والبناء اليوم جميعها صينية؛ تقودها شركة "هندسة البناء الحكومية الصينية"، وهذه بدورها تحتل ترتيب 23 بين الشركات العالمية الأكبر إجمالا. سجلت تلك الشركة سنة 2018 أرباحا سنوية قدرها 156 مليار دولار، وجددت جسر "ألكسندر هاملتون" بنيويورك وبنت برج الفيدرالية في موسكو، وهو ثاني أطول مباني أوروبا. وتقوم الشركة الصينية العملاقة حاليا ببناء جميع فقرات أكبر ملعب رياضي بأثيوبيا، وعاصمة مصر الجديدة، وأكملت للتو إنشاء جامع الجزائر الكبير.
تعد شركتا "سينوبك" و"شركة البترول الوطنية الصينية" (وعائدات كلا منهما تقارب 326 مليار دولار) أكبر شركات النفط والطاقة عالميا. تمتلك سينوبك حقول نفط عبر افريقيا (لدى كل من نايجيريا والغابون والسودان واثيوبيا والكاميرون وانغولا)، ومؤسسات في كندا واستراليا وبريطانيا. وقبل عامين، ذكر تقرير الشركة السنوي أنها أنهت نحو 800 مشروع لدى أربعين دولة؛ بضمنها أميركا والأرجنتين. أما شركة البترول الوطنية الصينية فهي تبني إمبراطورية متمددة في دول يصعب انجاز الأعمال فيها؛ إذ تعمل لدى العراق وإيران وأفغانستان وسوريا وجنوب السودان وكازاخستان وأوزبكستان وغيرها. أما أكبر مؤسستين عالميتين للتعدين فهما صينيتان أيضا: شركة "الصين مينميتالس، ومجموعة "آمر الدولية". وكذلك أكبر ثلاثة بنوك تجارية عالمية: "البنك الصناعي والتجاري الصيني و"بنك التعمير الصيني" و"البنك الزراعي الصيني".
بين التجارة وسياسة الدولة
يرى الحزب الشيوعي الصيني أن من المنطقي بالنسبة للحكومة تعزيز وتسهيل التوسع السريع لهذه الشركات، فالشركات الحكومية ليست لاعباً اقتصادياً مهماً فحسب؛ بل جزء راسخ من النظام السياسي، كما ترى د. "ويندي ناغ" أستاذة في كلية القانون بجامعة ملبورن. ويتفق معها البروفيسور سينغ بأن العديد من الشركات الحكومية الصينية هي أيضا.. "أدوات للاهتمامات السياسية الصينية". فأغلبها (على سبيل المثال) عناصر مركزية لتنفيذ مبادرة الرئيس الصيني "شي جين بينغ" لمشروع "الحزام والطريق"؛ وهي شبكة ضخمة من الطرق السريعة والموانئ وسكك الحديد تربط شرق آسيا بأوروبا وافريقيا.
بالطبع لاتزال تلك العملاقة الصينية تواجه تحديات كبيرة، ولديها طريق تقطعه قبل أن تتربع في موقع "وولمارت" لتكون أغنى شركة عالميا، بموارد سنوية تفوق 500 مليار دولار. ووسط مخاوف متزايدة داخل الصين بشأن احتكار الصناعة محليا؛ شددت الحكومة مؤخرا تشريعاتها لمكافحة الاحتكار. تفقد تلك الشركات بعضا من سطوتها خارج الصين؛ كما تقول د. "ناغ": "مازالت الشركات الصينية خاضعة لقوانين المنافسة داخل الدول التي تعمل فيها". وبينما أسهمت المميزات التي حصلت عليها داخل الصين على تحفيز معدلات نمو لا تصدق؛ تبقى هناك شكوك متأصلة حول الدوافع السياسية للشركات الصينينة العاملة على تراب أجنبي، أبرزها النقاشات المستمرة حول "هواوي" ودورها في تقنيات الجيل الخامس 5G عالميا.
يعتقد خبراء كثيرون أن الصين هي الدولة التي ستحمي سفيرات تجارتها كبريات شركاتها من قوانين المنافسة؛ التي يتوقع أن تفرضها هيئة جديدة لمكافحة الاحتكار. يقول "أدريان إيمش" الشريك بمكتب هوجان لوفيلز للمحاماة في بكين: "أتوقع أن تكون بداية هيئة مكافحة الاحتكار بطيئة". تمكنت تلك المؤسسات من إكتساب عائدات ضخمة عن طريق السيطرة على الصناعات المتنوعة داخل الصين، وستستثمر تلك العائدات في أسواق أجنبية بمقياس صار منافسوها الدوليون يصارعون (بشكل متزايد) لمضاهاته.. وقد تكون محنة ويست فرجينيا أمرا يواجهه العالم عما قريب!