جريمة لا تزال تطارد السويد
بانوراما
2019/07/15
+A
-A
ايموجين ويست نايتس
ترجمة: خالد قاسم
أغتيل أولوف بالمه قبل أكثر من ثلاثين سنة في أكثر شوارع ستوكهولهم ازدحاماً. ولم تعثر السلطات على القاتل حتى الآن، فهل يؤدي اكتشاف أدلة جديدة الى حل القضية؟ شهدت ليلة الجمعة الأخيرة من شباط 1986 خروج رئيس وزراء السويد أولوف بالمه وزوجته ليسبث للتنزه مشياً على الأقدام، وذهبا الى السينما بلا حراس شخصيين، كما هي عادتهما.
بعد الساعة الحادية عشرة والثلث مساء، وأثناء سير الزوجين بشارع "سفيافاغن" المزدحم نسبياً، سار رجل طويل يرتدي معطفاً داكناً خلفهما. وضع الرجل إحدى يديه على كتف بالمه وأطلق رصاصة واحدة من مسدس باليد الأخرى على ظهره، وخدشه ليسبث برصاصة ثانية قبل هربه نحو شارع مواز. وسارع المارة في محاولة لإنقاذ بالمه الملقى على الرصيف فوق بركة من الدماء. وأخذوه بعد ست دقائق الى أقرب مستشفى لكنها أعلنت وفاته رسمياً بعد دقائق من منتصف الليل، لأن الرصاصة قطعت حبله الشوكي، فمات قبل سقوطه على الأرض.
مع أن أكثر من 20 شاهداً رأوا القاتل، لكن تلك الحقائق هي نفسها التي يعرفها الجمهور بشكل مؤكد عن مقتل رئيس الوزراء. فكان بالمه أكثر من مجرد سياسي، وقاد السويد طيلة 16 سنة من خلال الحزب الاشتراكي الديمقراطي اليساري المسؤول عن السياسة المحلية للسويد، كالضرائب ونظام الرعاية الاجتماعية القوي، ولم يجسد بالمه حزبه فحسب وإنما تلك القيم أيضاً.
شخصية شعبية
لكل ذلك كان بالمه محبوباً من كثيرين، ووصفه سلفه تاغ ارلاندر بقوله: "أكبر موهبة سياسية شهدتها السويد في هذا القرن"، وكرهه آخرون من اليسار لأنه من سلالة أرستقراطية، ولم يثق به الأرستقراطيون لأنه خائن لطبقتهم. ووصل الأمر الى حد اتهام بعضهم له بالتجسس للإتحاد السوفيتي.
كانت رمزية مقتل بالمه واضحة للسويديين من مختلف المذاهب السياسية: أراد القاتل تدمير فكرة السويد المعاصرة نفسها. فقد عاشت البلاد حالة من الفوضى بعد وفاته. وشهدت السنوات اللاحقة اخفاقاً محققاً تلو الآخر بحل القضية، ولا يزال التحقيق الرسمي مفتوحاً. ألغت السويد عام 2010 قانون سقوط جرائم القتل بالتقادم، بهدف استمرار المحققين ببحثهم عن قاتل بالمه مهما استغرق الأمر من وقت. وتعرض أكثر من 10 آلاف شخص للاستجواب بهذه القضية، وتحتل ملفاتهم نحو 250 متراً من رفوف مقر الشرطة الوطنية السويدية، وهو أكبر أرشيف بتحقيق جريمة قتل عالمياً.
أصبح لغز موت بالمه هاجساً وطنياً، وألهمت الجريمة انتاج أفلام ومسرحيات وموسيقى، بل صارت عاملاً في الانفجار العالمي لقصص الجريمة الاسكندنافية، ودفع التحقيق بعض المحققين لخرق القانون وبلغ آخرون حافة الجنون. وأطلق بعضهم تسمية "مرض بالمه" على القضية، واعترف نحو 130 شخصا بارتكاب الجريمة على نحو زائف.
تخلق كل جريمة غير محلولة فراغاً يملأه الناس بنظرياتهم الخاصة، لكن هناك قضايا قليلة على مستوى العالم يصح عليها هذا الوصف أكثر من قضية بالمه. وكان للرجل أعداء كثر، ويفضي مقتله بسهولة الى نظريات المؤامرة لأنه تسبب بانقسام الرأي العام لدرجة أن المحقق لينارت غوستافسون، الذي تابع القضية مدة ثلاثين عاماً منذ وقوعها، أخبر مراسلا عام 2012: "يمكنك الاشتباه بنصف عدد سكان السويد." ويبرر جواكيم، أحد أبناء بالمه وهو باحث سياسي بجامعة أوبسالا، مقتل أبيه بنظرية المؤامرة.
فوضى عارمة
خلال شباط الماضي، ظهر كبير المحققين على التلفزيون السويدي ووعد بثقة مدهشة بمنح الجمهور حلا خلال السنوات القليلة المقبلة. ومن الضروري الحذر لأن هذه الامكانية جربت كثيراً من قبل، لكن الشرطة أكدت مقابلتها أشخاصاً جدد وتختبر أدلة مادية جديدة للمرة الأولى منذ سنوات كثيرة، وبعد 33 سنة لا تزال الدراما التي رسمت السويد المعاصرة بدون نهاية.
سقطت السويد في حالة من الفوضى بدءا من لحظة أول اتصال طوارئ أجري بعد اطلاق النار. وتظهر تسجيلات صوتية للحوارات بين مقر الشرطة وأفرادها عند مسرح الجريمة وموظفي المستشفى عدم تصديق الجميع بما جرى.
سيطرت الصدمة على الشارع الذي شهد الاغتيال، وفشلت الشرطة بتطويق مسرح الجريمة بشكل مناسب وغطت مساحة صغيرة جدا. ولم تعثر الشرطة على إحدى الرصاصات الا بعد يومين، عندما إلتقطها أحد المارة من الرصيف. وعندما وصل المشيعون بعد ساعات من وفاة بالمه، اجتازوا الشريط الأصفر لأجل وضع الزهور قرب بركة الدماء ونتيجة لذلك مسحوا آثار أقدام القاتل، وسمح للشهود الرئيسيين بمغادرة المكان قبل استجوابهم.
لقد انتشرت فرق الشرطة بحثاً عن المسلح، لكن لم تتوفر لديها معلومات عن شكله. واستمر عمل القطارات والعبارات والطائرات كالمعتاد، أما الطرق والجسور خارج المدينة فبقيت مفتوحة لمدة ساعات بعد الجريمة. وخلال تلك المرحلة بدا أن لا أحد مسؤول فعلي عن التحقيق، وكانت عطلة "أسبوع رياضي" إذ يتجه كثيرون من سكان العاصمة الى الجبال، ومنهم هانس هولمر قائد شرطة العاصمة الذي ذهب للتزلج شمال البلاد.
لم يجر هولمر تحقيقاً بجريمة قتل من قبل، لكنه عندما تلقى الخبر أسرع بالعودة الى المدينة وتولى مسؤولية التحقيق. أدى هولمر من أول ظهور تلفزيوني له دور البطل الذي تعتمد عليه الأمة الخائفة، وسرعان ما أرسل الجمهور باقات الزهور وعلب الشوكولاته الى مكتبه وأثنت عليه الصحف بوصفه "كلينت ايستوود" السويد. وعانت البلاد خلال الأسابيع اللاحقة للتعامل مع ما حدث. إذ كانت آخر جريمة قتل لمسؤول حكومي سويدي وقعت سنة 1792 عندما أغتيل الملك غوستاف الثالث أثناء حفل تنكري.
شرطة عاجزة
رغم شعبيته، لكن هولمر بدا غير جاهز أيضا. ومن بين أولى الخطوات التي اتخذها هي نشر صورة مركبة للمشتبه به الذي شاهده الناس يركض قرب موقع الجريمة. لكن فجوات المشاهدات المفترضة للقاتل الهارب تعني أن لا أحد متأكد من أن الرجل الظاهر في الرسم هو القاتل. ومع ذلك، نشرت صورة الرجل ذي الشكل الإسكندنافي بأنف طويل وشفاه نحيفة بكافة صحف البلاد، ولقبه السويديون "الشبح". وتلقت بدالة اتصالات مقر شرطة ستوكهولم كماً هائلا من المكالمات لاحقا تنقل نحو ثمانية آلاف معلومة عن جيران ومعارف يشبهون "الشبح".
أعتقل أول مشتبه بعد 17 يوما من الجريمة، وربطته صلات مع جماعات يمينية كانت تعتقد أن بالمه عميل سري للمخابرات السوفيتية، لكن سرعان ما أطلق سراحه بسبب نقص الأدلة. عند تلك النقطة، بدأ هولمر بالتركيز على نظرية بديلة: تورط حزب العمال الكردستاني بالاغتيال. فتلك الجماعة التي امتلكت مكتبا في ستوكهولم كانت قد صنفت منظمة ارهابية من قبل حكومة بالمه، لكن لم يربط أي دليل مادي الجماعة بالجريمة.
انهمك هولمر كثيرا بنظريته لدرجة عدم اهتمامه بنقص الأدلة، ومع مطلع 1987 وبعد التحقيق مع الجماعة لمدة سنة تقريبا، داهمت الشرطة مكتبة في ستوكهولم كانت قاعدة للحزب واعتقلت 50 من أفراده. ولم تثمر المداهمة شيئا للتحقيق، وانقلبت الصحف على هولمر بسبب ذلك الفشل ونشرت عناوين رئيسية مثل "هولمر يجب أن يغادر" وقارنته بالمفتش كلوزو في سلسلة أفلام النمر الوردي. واستقال هولمر، ووصف تقرير رسمي السنة الأولى للتحقيقات بأنها "تحمل تشتتا وارتباكا خطيرين."
ازدادت الأمور غرابة بعد ذلك، فقد استمر هولمر سراً بمتابعة نظرية حزب العمال، وهو مواطن عادي، حتى 1988 عندما أعتقل مع صحفي يدعى إيبي كارلسون أثناء محاولتهما تهريب معدات غير القانونية للتنصت على المكالمات الى السويد لمراقبة أفراد الجماعة. كانت فضيحة وطنية، فبطل البلاد سابقا يخرق القانون للتحقيق بنظرية ضعيفة عن الاغتيال، وأكتشف لاحقا أن وزيرة العدل آنذاك "آنا غريتا ليجون" كانت مشتركة معهما أيضاً.
وعينت الشرطة رئيسا جديدا للتحقيق؛ بحث دليلا أهمله هولمر: رجل يتصرف بطريقة مريبة في ليلة الجريمة قرب السينما إذ تواجد بالمه. وكان هناك مشتبه به أيضا؛ هو كريستر بيترسون الذي طابقت أوصافه شكل الرجل، وأكد ثلاثة اشخاص أن بيترسون كان قادراً على ارتكاب الجريمة، فهو سجين سابق، لأنه طعن شخصا ما بحربة حتى الموت.
ورغم غياب الدافع، اعتقلته الشرطة أواخر العام 1988، وشاهدت "ليسبث بالمه" مقطع فيديو لمجموعة مشتبه بهم شملت بيترسون، وتعرفت عليه بأنه قاتل زوجها. فأصر بيترسون على براءته، فلا يوجد دليلاً مادياً يربطه بمسرح الجريمة، لكن بسبب قوة شهادة ليسبث أدين وحكم عليه بالسجن المؤبد في تموز 1989، بعد سبعة أسابيع من المحاكمة.
بدا لوهلة أن الصدمة الوطنية قد انتهت. لكن بيترسون استأنف الحكم فورا وأظهر محاموه أن الشرطة أخبرت ليسبث قبل عرض المقطع بأن المشتبه به كان مدمناً على الخمور. فأطلق سراح بيترسون بعد ثلاثة اشهر، وتلقى تعويضا قدره خمسون ألف دولار لاعتقاله الخاطئ.
نظرية المؤامرة
لم يختف بيترسون عن الحياة العامة، ففي السنوات التي أعقبت اطلاق سراحه طلب مبالغ كبيرة من الصحف وقنوات التلفزيون مقابل اجراء مقابلات شهدت تقديم المغريات والرشاوى له ليعترف بارتكاب الجريمة. اكتفى بيترسون بالتلميح الى تورطه، لكنه لم يعترف مطلقا، وتوفي عام 2004، وإن كان هو قاتل بالمه، وهذا ما يعتقده كثيرون، فقد أخذ السر معه الى قبره.
هناك أسئلة مهمة عن ليلة الجريمة تبقى بلا إجابة، مثل سلاح الجريمة، والاعتقاد السائد أنه "مسدس ماغنوم سميث أند ويسون 357"، وهناك سؤال سبب أهمال تقارير شهود عن رجال يحملون أجهزة لاسلكي قرب موقع الجريمة، وغيرها. وتخبط التحقيق الرسمي خلال السنوات العشرين الماضية، ومع أن أربعة محققين رئيسيين تولوا مسؤولية القضية بين عامي 1988 و2013 لكن لم يعتقل أي مشتبه به.
تداول الناس نظريات كثيرة ولا تبدو أي منها غريبة جدا: الزوجة قتلته بسبب خياناته المتكررة، قتلة بالمه هم أنفسهم من قتل جون كنيدي، كان انتحاراً مخططاً له، وإبن بالمه "مارتن" هو من سحب الزناد؛ وجريمة القتل مفبركة بأكملها، أو أن القاتل هو المخرج الروسي أندري تاركوفسكي الذي التقى بالمه عام 1984 طالبا مساعدته بإخراج ابنه من الاتحاد السوفيتي. لكن مارتن بالمه أخبر نيويورك تايمز سنة 1998 أن نظريات المؤامرة تلك أعدها أشخاص مجانين.
لكن هناك نظريات أخرى أكثر موثوقية جاءت من أشخاص سيطر عليهم هاجس بالمه ويعرفون بإسم "المخبرون الخاصون". وكرس هؤلاء جزءاً كبيراً من حياتهم لايجاد حل للقضية، وبرز أولهم بعد مداهمة هولمر الفاشلة على حزب العمال، وأتهموا أحيانا بمضايقة الشهود والتدخل بالتحقيق الرسمي. استخدم كثيرون عمليات إعادة تمثيل مسرح الجريمة كأداة تحقيقية.
تباين المحققون الخاصون بمرور السنين بين صحفيين جادين وأشخاص غريبي الأطوار. ونشر الصحفي المعروف سفين أنر خمسة كتب عن القضية بين 1988 وحتى وفاته عام 2018.
من أهم الأسباب التي تبقي تأثير الجريمة في السويد حتى يومنا هذا هو أن بالمه كان أول شخصية شهيرة في السويد. وشهد العقد الماضي ازدهارا بظاهرة بالمه، وخصوصاً بين الشباب الذين ولدوا بعد 1986 أو كانوا صغارا جدا لمتابعة السنوات الأولى من التحقيق.
تحقيقات خاصة
أحد أشهر الميادين الجديدة لهذا الهوس هو "قتل بالمه"، وهي مدونة صوتية تستكشف كافة تفاصيل القضية وتمتد الى 173 حلقة وما تزال مستمرة. مقدم المدونة "دان هورنينغ" وهو أيضاً منظم مسيرة بالمه بالذكرى السنوية للجريمة. ويمشي دان مع المستمعين على الممر الأخير نفسه لبالمه، ويصلون مسرح الجريمة لحظة وقوع الحادث.
لا يزال بعض المحققين الخاصين مجتهدين في عملهم، وأسس بعضهم مؤخراً جماعة تدعى "لجنة الحقيقة" ويجري أفرادها تحقيقا مستقلا بالقضية منذ سنوات وبدأوا بجمع مصادرهم في 2016. يقول رئيس المجموعة سفين أوستربرغ: "مهمتنا الأساسية هي جمع وتمرير معلومات مجهولة المصدر، إما الى الشرطة أو الصحفيين. قد لا يميل بعض الناس للتحدث مع الشرطة، وحينذاك نكون البديل الآمن."
يضيف سفين أن حل القضية لا يزال يحتل أهمية قصوى بالنسبة للسويد، وذكرت النشرة الصحفية للمجموعة "يجب حل قضية هذه الجريمة لصالح مصداقية وبقاء مجتمعنا الديمقراطي".
وبدأ مؤخرا عمل بعض الصحفيين والمحققين الخاصين بانتاج نظريات مؤثرة في تحقيق الشرطة الرسمي، فخلال الصيف الماضي نشرت مجلة سويدية تدعى "فلتر" نتائج 12 سنة من التحقيق وذكرت أن القاتل هو أحد شهود القضية وإسمه "ستيغ انغستروم"، واشتهر ستيغ محلياً بسبب عمله مع شركة تأمين عملاقة لديها مكاتب مجاورة لمكان الجريمة.
يوصف ستيغ سياسياً بالمعتدل، واكتشف توماس بيترسون الصحفي الذي قاد تحقيق المجلة أن ستيغ جندي سابق، ويزعم أنه امتلك ترخيصاً للتدريب والوصول للأسلحة عبر صديق لديه مجموعة كبيرة من سلاح الجريمة نفسه. وتبين سجلات شركة التأمين أن ستيغ غادر مكاتبها عند الساعة 11 و19 دقيقة مساء أي قبل دقيقتين من مقتل بالمه.
وقد انتحر ستيغ عام 2000، وتعتقد زوجته التي طلقها قبل موته بسنة أنه جبان جداً لدرجة تمنعه من اغتيال بالمه، لكنها أخبرت صحيفة محلية أن الشرطة استجوبتها مرتين عام 2017.
تورط خارجي
تستكشف الشرطة نظرية أخرى أكثر اثارة للقلق، قدمها أشهر شخصية تحولت الى محقق خاص "ستيغ لارسون" وهو اضافة الى عمله الروائي الشهير "الألفية" المكون من ثلاثة أجزاء، فلديه مسيرة طويلة في الصحافة الاستقصائية. النظرية التي عمل عليها عندما توفي بنوية قلبية عام 2004 هي أن الجريمة نفذتها مؤامرة دولية عن طريق جماعتين ذات دوافع مختلفة لكنهما تقاسمتا الاعتقاد بضرورة موت بالمه.
تكونت المجموعة الأولى من انصار التمييز العنصري لجهازي الأمن والمخابرات الجنوب أفريقي. وكان بالمه معارضاً قوياً لذلك النظام، ومنحت حكومته ملايين الدولارات كمساعدات انسانية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. ودارت فرضيات عن تورط نظام جنوب أفريقيا بمقتله منذ الأيام الأولى للقضية، وزاد رواجها عام 1996 عندما ادعى قائد سابق لفريق اغتيالات جنوب أفريقي أن قتل بالمه كان جزءاً من "عملية الامتداد الطويل"، ضمن برنامج فائق السرية لتحييد معارضي حكومته.
أما المجموعة الثانية فتكونت من متطرفي أقصى اليمين السويدي، وكان لارسون يجري تحقيقا عنهم حتى قبل مقتل بالمه. وإعتقد لارسون بتورط المرتزق السويدي "برتيل ويدين" بالاغتيال ويقال أنه عمل جاسوساً لجنوب أفريقيا. وذكر لارسون أن ويدين ساعد بتجنيد قاتل بالمه وهو متطرف سويدي. ونفى ويدين مشاركته بالقضية ولم يوجه اليه أي
اتهام.
زار محققو الشرطة السويدية جنوب أفريقيا في تشرين الأول 1996 وذكروا عجزهم عن كشف دليل على هذه المؤامرة. وبعد وفاة لارسون تولى "يان ستوكلاس" التحقيق ونشر دراسته عن القضية باللغة السويدية العام الماضي، ويعتقد أن القاتل لا يزال حياً ويخضع للتحقيق من الشرطة
السويدية.
ظهرت أخطاء التحقيق، لدى كل المسارات، منذ الأيام الأولى للقضية. فلماذا تظهر المعلومات للصحفيين ويغفلها الشرطة؟ تبرز هنا أيضاً عدة فرضيات. ومنح عجز تحقيق هولمر دفعة لنظرية تقول : إن بالمه أغتيل على أيدي يمينيين متطرفين داخل الشرطة. هولمر نفسه كان مسؤولا عن إحدى الجماعات المخيفة من ضباط الشرطة ممن يرتدون ملابس مدنية وحظيت بسمعة وحشية ولديها ميول للفكر النازي.
أزمة قديمة
يعتقد آخرون أن المشكلة هي خضوع هولمر ومن جاء بعده من محققين لضغط هائل غير رسمي، من حزب بالمه لإيجاد حل يسهل تقبله من المجتمع. مثل اتهام الانفصاليين الكرد، وكريستر
بيترسون.
أيد هذا الرأي الصحفي الاستقصائي "غونار وول" الذي ألف عدة كتب عن قتل بالمه. ورأى أن رفض النظر الى أقبح الجوانب من حياة البلاد يعد تقليداً سويدياً قديماً. فقد احتاج المؤرخون السويديون فترة طويلة للاهتمام بحقيقة أن بلادهم تعاملت تجارياً مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. ويعتقد البعض أن هذا الرفض نفسه يفسر سبب شعور كثيرين هناك بالمفاجأة من نجاح اليمين المتطرف الذي كسب 18 بالمئة من أصوات انتخابات العام الماضي البرلمانية. لكن المحققة الخاصة درانغل أن مشكلة هولمر الأساسية خلال التحقيق هي عدم معرفته بما يجب فعله. وبعد تقديمه استقالته، كتب هولمر قصة جريمة خيالية حققت نجاحاً مقبولاً عن رجل شرطة من ستوكهولم يلقب بالبرغوث. وقبل وفاته عام 2002 بدأ تأليف كتاب عن قتل
بالمه.
وظهر بصورة مفاجئة دليل مادي بعد 30 سنة، فقد تلقى المحققون جهاز لاسلكي وجد في منطقة مجاورة لمكان الجريمة بعد يومين من الاغتيال. ولم يتضح سبب احتفاظ الشخص الذي وجد الجهاز لديه طيلة هذه العقود، ولماذا قرر تسليمه الآن. واذا كان الجهاز مرتبطاً بالجريمة، فهذه الحقيقة تعني مشاركة أكثر من شخص واحد بمؤامرة قتل بالمه، وذكرت تقارير إخبارية أن الجزء القريب من الفم في الجهاز سيفحص بحثاً عن الحمض
النووي.
يقول الصحفي غونار ان المحققين كتومين، وكبير المحققين الذي تولى القضية عام 2016 رجل يدعى "كريستر بيترسون!" وقال خلال برنامج اسبوعي: إن فريقه يتلقى معلومات جديدة بصورة مستمرة، وهو ما دفعه للتفاؤل بحل القضية وإخبار الشعب السويدي بما حدث.
سواء ظهر حل قريباً أم لم يظهر فذلك يعتمد على الجهة المسؤولة عن تقديمه. ويشعر كثيرون بالتشاؤم بسبب وفاة شهود كثيرين أو عدم مصداقية آخرين، وغياب أدلة مادية كثيرة. لكن هناك من يشعر بالتفاؤل ويعتقدون أن الضغط لحل القضية سيأتي من جيل الشباب الرافضين لجريمة قتل مفتوحة.
وذكر الصحفي آرن روث عام 1998 أن آثار الاستقالات والفضائح؛ وليس الاغتيال نفسه؛ هي التي تلازم البلاد: "الاخفاق التام للنظام القضائي في التعامل مع القضية كان كارثة أسوأ من السويد."
صحيفة الغارديان البريطانية