رحلة ماجلان.. استكشاف العالم الذي قاد إلى {العولمة}

بانوراما 2019/07/20
...

إتيكسو دياز
ترجمة: ليندا أدور
تسلط الذكرى المئوية الخامسة لأولى الرحلات الاستكشافية حول العالم، الضوء من جديد على شهادات صادمة لأشخاص شاركوا في الرحلة التي تغير العالم على إثرها وإلى الأبد. ربما لم يسبق لك تجربة تناول الفئران، بين الحين والآخر، بأن تظهر القوارض مشوية أو نيئة؛ كطبق شهي تقدمه مطابخ أفلام الرعب، لكنها لم تدرج ضمن قوائم الطعام الحديثة. لكن، قبل 500 سنة، وجد الناجون من رحلة فرديناند ماجلان أنفسهم مضطرين الى أكل الجرذان ليتفادوا شرا أكبر، وهو أن يأكلوا بعضهم بعضا، وقد غدت أمرا مألوفا لديهم في رحلاتهم.
 
عالم كروي
كانت تلك، هي النهاية المريرة لأولى الرحلات حول الكرة الأرضية، وهذه الأيام، بالتزامن مع ذكراها الخمسمئة، صار الوقت مناسبا للكشف عن ما كان، في حقيقة الأمر، "مغامرة مجنونة"، والتي من الضروري لنا إدراك أن تلك الرحلة الاستكشافية، كانت الولادة لما بات يعرف اليوم بفكرة "العولمة".
في العام 2019، يستغرق الأمر أقل من عشر ثوان للدوران حول العالم باستخدام "غوغل إيرث"، ولو كان ملك اسبانيا، تشارلز الأول، لديه الأداة نفسها خلال العام 1519، لم يكن ضروريا استئجار خمس سفن وإخضاع 239 رجلا لشتى أنواع المحن، لكنه كان ضروريا بالتأكيد، لكي تكتشف إسبانيا طريقا غربا باتجاه أقصى الشرق لتسهيل طرق التجارة، وكان العالم بحاجة لأن يعرف لمرة واحدة والى الأبد، هويته الحقيقية بأنه كرة. في العام 1519، كانت تلك الحقيقة بعيدة عن أن تكون واضحة، فقبل ذلك  بنحو 27 عاما، حاول كريستوفر كولومبس الابحار غربا الى الصين، لكنه لم يفلح بالوصول.
لكن ماجلان عرف بالتحديد كيف يبدو الشرق الأقصى، فقد سبق له أن أبحر حول القمة الافريقية (رأس الرجاء الصالح) باتجاه الشرق والتي قادته الى شبه جزيرة ملايو، لكنه، عزم هذه المرة ان يأتي اليها من الجانب الآخر، اذا كان العالم بالفعل كرويا. من بين خمس سفن و239 رجلاً، أبحروا من أشبيلية جنوبي إسبانيا العام 1519، عادت سفينة واحدة و18 رجلاً فقط، كانوا أبطالا بحق، وفوق ذلك كله، كانوا شهوداً على ما حدث. 
 
إبحار نحو الموت
قبل بضعة أشهر، أثناء عبوري مياه المحيط الاطلسي بقارب صغير (بلسان كاتبة المقال)، وقد أدهشني منظر الدلافين وهي تلهو، فلم أتمكن من التوقف عن التفكير بالاشياء التي وقعت عليها أعين المستكشفين الأول، أو ما مروا به. فما ان عدت الى بلدي، حتى بدأت بجمع كل الوثائق المتاحة التي تمكنت من الحصول عليها، ومنها يوميات الفينيسي أنطونيو بيجافيتا؛ أحد الناجين، وكان هناك سجل أحداث الرحلة الذي دونه المرشد البحري فرانسيسكو آلبو، وكانت هناك رسالة الى الملك كارلوس من "خوان سباستيان إيلكانو"، الذي أكمل الرحلة بعد مقتل ماجلان. قرأت مقابلة أجريت مع طاقم السفينة "فيكتوريا"، وقرأت كتاب "جينيس دي ماريا" عن اكتشاف ما يدعى اليوم بمضيق ماجلان، فضلا عن الأرشيف العام لجزر الهند، والذي يعد مصدرا ثمينا لإعادة بناء الجانب المظلم لذلك التأريخ. 
لدى قراءتي للوثائق المحفوظة، كان هناك شيء واحد مؤكد، بان أولئك الرجال أبحروا نحو الموت، معظمهم كان يعرف ذلك، ومعظمهم متيقن من ذلك، وأن بقاءهم أحياء سيكون بمثابة المعجزة. لكن اليوم، ونحن على أعتاب توديع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، من الصعوبة بمكان فهم  مستوى هذه المخاطرة غير المحسوبة، فاليوم يقامر رجال الأعمال بأموالهم وليس بحياتهم. لكن قبل خمسمئة عام، قامر الملك الاسباني بأمواله، فيما قامر أبطال رحلة ماجلان الاستكشافية بوجودهم. 
فقد تم تمويل الرحلة من أموال ملكية بمدريد، لكنها، في الوقت نفسه، شكلت مؤسسة دولية. 
وبينما تولى قيادة الرحلة قائدان برتغاليان، كان طاقم السفن الخمس؛ ترينيداد، وسان أنتونيو، وكونسيبسيون، وفيكتوريا، وسانتياغو، رجال من 10 جنسيات مختلفة، منها: الاسبانية والبرتغالية والايطالية والفرنسية واليونانية. 
بعد مضي أربعة أشهر على مغادرتهم اسبانيا، وصلوا الى الأميركيتين؛ الجنوبية تحديدا، بما تعرف اليوم ريو دي جانيرو، والتي وصفتها مذكرات بيجافيتا بأنها "مكان أبتلي بأعداد لا حصر لها من الببغاوات"، وقد ذهل سكانها المحليون من الفؤوس الحديدية والسكاكين التي قدمها لهم الأوروبيون، لأنها تقنية لم يشهدوها من قبل، ليمنحوا المغامرين، مقابل ذلك، واحدة أو اثنتين من بناتهم.
 
ضجر وتمرد ومؤامرات
منيت المحاولة الأولى لإيجاد طريق للدخول الى بحر الجنوب بالفشل، اذ لم تكن الطريق سالكة بالكامل، ما ولد شعورا كبيرا وخطيرا من الاحباط بين البحارة. وبحلول شهر آذار من العام 1520، بعد مرور ثمانية أشهر من الابحار، وبينما كان البحارة قريبين من رأس أميركا الجنوبية، كانوا على مبعدة بضعة أيام فقط للوصول الى القارة القطبية الجنوبية واجتياز المضيق، لولا بداية سوء الاحوال الجوية، فاتخذ ماجلان قراره بأن يقضي فصل الشتاء في سان جوليان، حيث شح الطعام واشتد البرد وبدأت المعنويات بالتدهور، ودب الضجر الى نفوس الطاقم، فصاروا يشكون قلة توزيع الطعام، لكن ماجلان الذي اتخذ قراره بالاستمرار في مسيره غربا أو الموت محاولا ذلك، طلب منهم التحلي بالشجاعة الكافية للمضي الى الأمام.
لم يثق به رجاله، ولم يصدقوه، ولم يؤثر خطابه الذي ألقاه بينهم لتهدئة أجواء التمرد، لتنمو المؤامرات والمخططات ليلا، فاجتمع قباطنة السفن جميعها باستثناء سانتياغو، بالضد من ماجلان وطالبوه بالعودة الى إسبانيا، لكنه حسم الأمر بالحكم على أفراد طاقم سفينة فيكتوريا من المتمردين بمحكمة عسكرية والعفو عن 50 آخرين. 
أعقب ذلك بضعة أيام، ليفقد ماجلان السفينة سانتياغو التي تحطمت بين الصخور بعد نجاة طاقمها الذي أمضى شهرين بجمع المؤونة التي طفت بموقع الحطام، حيث عاد اثنان من البحارة إلى بقية سفن الرحلة لإيصال أخبارها، وكان قد سارا لمدة أسبوع ولمسافة نحو 160 كيلومتراً مليئة بالاشواك والاعشاب، لا شيء يأكلونه سوى النباتات البرية وطعام البحر النيئ، ويشربون مياه الجليد.  
 
الباتاغونيون
بحلول منتصف فصل الشتاء، اكتشفت رحلة ماجلان "بعض الهنود" من "طوال القامة"، الذين يطلق عليهم تسمية "الباتاغونيون"، وكتب بيجافيتا يقول: "رأينا عملاقا عاريا يرقص ويقفز ويغني ويرمي بالرمال على رأسه، وعندما رآنا بدا عليه التعجب والخوف ورفع إصبعه الى الأعلى؛ في إشارة منه كأننا آتين من السماء، وقد كان على درجة من الطول بحيث أن أطولنا قامة يصل الى محيط وسطه فقط". سمحت هذه الصداقة التي نشأت مع الهنود، للمستكشفين بخزن الطعام والحطب، بضمنها لحوم "الغوناكوس"، الشبيهة باللاما.
وجاء شهر تشرين الأول من العام 1520، بعد انقضاء الشتاء، ليعطي ماجلان أوامره لسفينتين بالتقدم على امتداد ذراع البحر، فعثروا على المضيق لكنهم لم يميزوه، ليبدأ الخلاف والشقاق من جديد، وعلى إثره غادرت كبرى سفن الرحلة؛ سان أنتونيو؛ الحملة سرا.
بعد ابحار استمر لثلاثة أشهر و20 يوما من دون التزود بالمؤن، يقول بيجافيتا: "أكلنا البسكويت القديم المطحون والمليء بالديدان تنبعث منه رائحة بول الجرذان، وشربنا مياها ملوثة وصفراء، أكلنا جلود الثيران التي أصبحت قاسية بسبب المطر والشمس والرياح، فكنا نضعها لايام في البحر ثم نضعها فوق الجمر ونتناولها، وقد بيع الجرذ الواحد مقابل نصف قطعة نقدية. 
انتشر مرض غريب، هو داء الإسقربوط بين أفراد الطاقم، ومن أعراضه انتفاخ اللثة إلى حد تغطي فيها الأسنان على كلا الفكين، فلا يتمكنون من تناول الطعام، لقي بعض البحارة حتفهم نتيجة المرض، كما أصيب به أحد الباتاغونيون، ليتلقى العلاج على يد بيجافيتا.
تغير العالم والى الأبد
أواسط ربيع العام 1521، حطت البعثة رحالها في جزيرة زوبو (تعرف اليوم سيبو)، وأقسم ملكها، الذي تحول الى المسيحية، على الولاء لملك إسبانيا، فتعمد كل سكان الجزيرة وهدمت أصنامهم. لكن قبل أن يغادر البحارة زوبو، حلت بهم مأساة جديدة وكبيرة، إذ أراد ماجلان غزو جزيرة ماكتان المجاورة، فقاد رجاله الى شواطئها وأحرقوا نحو 30 منزلا لسكانها الذين ردوا الهجوم بلا هوادة، وأجبروا ماجلان على العودة الى البحر، لكنه ورجاله واصلوا القتال، حتى أصيب ماجلان بسهم مسموم في ساقه، وأصيبت ذراعه برمح، تلاه آخر، فخر صريعا محاطا بالعدو، وفقا لبيجافيتا، ولم يتمكن رجاله من انقاذه بعد أن أخلوا الجرحى الى القوارب المغادرة، وهم يرونه يموت، وقد مات بالفعل يوم 27 نيسان من العام 1521، وعمره 41، ولم تتم استعادة جثته.
قرر من تبقى من الرجال تقليل عدد السفن الى اثنتين فقط، فأضرموا النار فيها وأبحروا على متن ترينيداد وفيكتوريا، واختاروا خوان سباستيان إيلكانوا قائدا لهم. وبحلول شهر تشرين الثاني من العام نفسه، وصلوا الى جزر التوابل التي سبقهم إليها البرتغاليون، والتي طالما كانت هدفا لماجلان. وجاء شهر كانون الأول لتبدأ السفن بالاستعداد للعودة إلى اسبانيا وهي محملة بالقرنفل. 
بسبب الرياح القوية، استغرقت رحلة فيكتوريا سبعة أسابيع لتصل الى رأس الرجاء الصالح، وكان عدد كبير من طاقمها يعانون المرض والجوع، لكن إيلكانوا واصل المسير غربا، ليصل الى إسبانيا في السادس ايلول سنة 1522، بعد رحلة استمرت ثلاث سنوات، الى ميناء سان لوكار دو باراميدا، وعلى متنها 18 بحارا ناجيا. منذ ذلك التاريخ، تغير العالم وإلى الأبد، فقد حددت الرحلة أبعاد الأرض، واكتشفت مضيق ماجلان، وعبرت أكبر المحيطات في العالم لأول مرة، فأطلقوا عليه إسم الهادئ، لأنهم لم يواجهوا العواصف فيه، وأثبتوا الطبيعة الكروية للكوكب واكتشفوا مناطق زمنية مختلفة. كما اكتشفوا ارخبيلات الهادئ الصغيرة والكبيرة، ومنها الفيلبين، وبأن البحار جميعها مرتبطة ببعضها 
البعض. لقد سافروا عبر نصف الكوكب من دون توقف، وكسروا الرقم القياسي للتحمل باجتياز أعالي 
البحار. 
 
* صحيفة ذا ديلي بيست الأميركية