العراق ماضٍ بالتغيير، فماذا عن سياسة الدول تجاهه؟

الثانية والثالثة 2018/11/07
...

 
مايكل روبين
ترجمة: ليندا أدور
 
 
 
“إن نَزفَ الدماء، تصدّر الانباء” مثل يقال عن نشرات الاخبار التلفزيونية،  وربما ليس هناك ما يدعو للدهشة عند تعلق الامر بالعراق، الذي هبط من موقع صدارته لعناوين الاخبار. فقد تراجعت أعداد ضحايا الارهاب من المدنيين منذ عامين، وفقا لاحصائيات الامم المتحدة، وازدحم مطار بغداد الدولي بحركة مرور للطيران من عموم منطقة الشرق الاوسط، ولم تعد مشكلته الرئيسة الكبرى  هي المسلحون الذين يستهدفون الطائرات أثناء هبوطها، بقدر ما هي مشكلة طيور الحمام التي تتجول بين أقدام مسافريه الذين يتناولون وجبة خفيفة في كافيتيريا المطار أو يستفيدون من خدمة الواي فاي المجانية. 
 
شيك على بياض
على طول الطريق البري بين بغداد والنجف، لا يزال هناك العديد من نقاط التفتيش، لكن اجتيازها لن يستغرق سوى دقائق بدلا من ساعة أو أكثر، العراق يعود الى حياته الطبيعية، ربما ليس كما في سبعينيات القرن الماضي، لكن ذلك ليس بالأمر السيئ على الاطلاق. فكم دولة عربية اخرى، شهدت أربعة تغييرات متعاقبة في السلطة وبطرق ديمقراطية، وفي كثير من الحالات، بين احزاب سياسية؟ والجواب ببساطة هو، لا يوجد.
خلال زيارتي الاخيرة الى العراق، كان حديث السياسة يطغى على جلسات المقاهي، فالعراقيون منشغلون بتشكيلة الحكومة العراقية الجديدة وكم ستدوم، وما الذي سيؤول اليه الامر مع حزب الدعوة بعد خروجه من السلطة؟. 
ومع مساعي عبد المهدي لتشكيل حكومته، يبرز السؤال هنا، هل ستصر الاحزاب على اقتسام المكاسب السياسية من خلال المناصب الوزارية، ام هل سيكون عبد المهدي حرا في اختيار حكومة تكنوقراط؟. في عدة بلدان عربية أخرى، سيكون الامر، وبدون أدنى تفكير، هو الغلبة للمحسوبية. لكن تظاهرات البصرة والافتقار الى الخدمات الحكومية، عطلت فرص العبادي في الفوز بولاية ثانية، ودفعت بالمؤسسة الدينية المستقلة في كل من النجف وكربلاء لسحب تأييدها لحكومة باتت تراها غير فعالة. النقطة في الاساس هي ان العراق اليوم بلد متعدد الدوائر الانتخابية، وكل منها له أهميته، ففي الوقت الذي لا يزال فيه العراقيون يلتفون حول الاحزاب الدينية نظرا لاهمية الهوية الدينية للمجتمع العراقي، الا إن تلك الأحزاب لم تعد مؤثرة مثلما كانت سابقا، فنحو 40 بالمئة من العراقيين الآن ولدوا بعد سقوط نظام صدام، وليس لديهم تصور للحديث عن مدى سوء الحياة خلال فترة حكمه، كمبرر لما تشهده الساحة اليوم من عدم الكفاءة أو انتشار الفساد، فضلا عن عدم استعدادهم لمنح كثير من الاحزاب الفرصة لاملاء توجهاتهم أو فرض إرادتهم، بعد تبني العراقيين تنوعا عرقيا ودينيا وفكريا.
 
ليس سويسرا
يمكن لأي أميركي سبق له العمل في العراق وغادره خلال الاعوام 2004، 2007 أو 2011، أن يجد اجزاء واسعة يصعب التعرف عليها الان، فلم تعد المراكز التجارية الكبيرة او ما يطلق عليها اسم “المولات” حكرا على اقليم كردستان، بل أصبح لبغداد نصيبها، وانتشرت الكثير من الاعمال الجديدة، ومبان يجري تشييدها لم تكن موجودة من 
قبل. 
وفي كربلاء، تجد انتشارا لصالات ألعاب الواقع الافتراضي ونوادي لممارسة السباحة لتمنح السكان والزوار متنفسا للترويح عن النفس غير زيارة الاضرحة المقدسة فيها. وحتى في المدن الاكثر تحفظا اجتماعيا، أصبحنا نجد النساء يجالسن اخريات وقد اجتمعن لتناول البيتزا أو ممارسة أي نشاطات أخرى. 
وعند عودته للمنزل، صارت للعراقي حرية في اختيار قناته التلفزيونية المفضلة من بين العشرات من القنوات العراقية والمئات من القنوات العربية الفضائية. 
وعلى العكس مما يحدث في الجارة تركيا، حيث يتوجب على جميع وسائل الاعلام ان تتبع مسار الحكومة، فان البرامج والقنوات الاخبارية العراقية أصبحت ساحة لنقاش محموم، ان لم يكن مهنيا، على الدوام.
يشار الى ان النقطة هنا هي ان العراق ليس مثاليا وهو بعيد عن ذلك، لكن سيشكل العام المقبل، اختبارا حقيقيا للحكومة الجديدة، فالشرعية مسألة عابرة، تمنح على اساس مؤقت، فان فشلت الحكومة في ذلك، يمكن أن يسود العنف من جديد، لكن بالمقارنة مع ايران وتركيا والمملكة العربية السعودية وسوريا ومصر، فان العراق نسمة هواء نقية، وهو موضع للسياسة الحقيقية وليس مجرد عرض جانبي للابقاء على انشغال الدبلوماسيين، هو بلد حيث يبرز القادة فيه ثم يتنحون بهدوء، هو من البلدان العربية القليلة والنادرة الذي عدد وزرائه المتقاعدين يفوق من لا يزالون في الخدمة، وحيث 70 بالمئة من برلمانه من الجدد الذين وصلوا بعد كل انتخابات، لكن العراق لن يصبح كسويسرا مطلقا، لكنه سيكون طبيعيا. 
لقد تحول الجدل السياسي الاميركي، منذ أمد طويل مضى، حول الواقع العراقي الى الحديث عن امكاناته المؤثرة اليوم، بعدما كان الجدل سابقا مركزا على التعامل مع البلد على انه كرة سياسية في الملعب الاميركي أو لوح للعبة حربية تستخدم لمواجهة ايران.