التحولات الجوهرية في نظم الاقتصاد الرأسمالي

اقتصادية 2019/07/24
...

د. محمد رياض حمزة 
 
 
من وجهة نظر اقتصادية صرفة فقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين تحولات في العقائد الفلسفية وتطبيقاتها (الإيديولوجيات) فانهارت النظم في أوروبا الشرقية التي تبنت الإشتراكية بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ولم يكن ذلك إلاّ سقوطا سياسيا للنخب الحاكمة في اسلوب تطبيقها للاشتراكية وليس للفلسفة الاشتراكية. التي تسلل بعض من تطبيقاتها لنظم الاقتصادات 
الراسمالية.
وساد العالم تصور بأن النظام الرأسمالي، نظام السوق، على غرار ما تطبقه الولايات المتحدة الأمريكية، هو النظام الذي سيأخذ بيد الشعوب الفقيرة إلى مصاف دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، مع أن الفلسفة الرأسمالية في أوروبا الغربية تطبق بأساليب مختلفة عن تطبيقها في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان. فسارع العديد من الدول الفقيرة والنامية في العالم إلى “ الخصخصة” .
وكان كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المشجعين والراعين الرسميين بالتنسيق مع الولايات المتحدة الامريكية لذلك النهج بالتعاون مع” المنتدى الاقتصادي العالمي ــ 
دافوس”.(*)
ومنذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين تنبهت الصين إلى خلل تطبيق الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الشرقية ، فأتاحت حريات محدودة اقتصادية للقطاع الخاص وتنامت لتشكل اليوم أكثر من 40 بالمئة من الخدمات والتجارة والصناعات غير الاستراتيجية، وبقي الحزب الشيوعي الصيني يطور علاقاته مع النظم الراسمالية على اسس عولمة الاقتصاد العالمي وفتح ابواب الاستثار الاجنبي برحابة وخلال اربعة عقود بدأً من عام 1978  بقيادة “دنغ شياو 
بينغ” .
فالصين ومنذ 1979 تحولت إلى مقصد استثماري فبدأت الشركات الغربية تُرَحِّل شركاتها إلى الصين متوخية خفض كلف الإنتاج الذي مصدره رخص أجور الأيدي العاملة ورخص المواد الأولية لمنتجاتها ، ولم يكن في عام ( 1979) أكثر من 100 شركة أجنبية تعمل في الصين، وفي نهاية القرن العشرين تصاعد عدد الشركات الغربية العاملة في الصين إلى عشرات الآلاف شركة ، وفي 2014 تجاوز 400   ألف شركة صغيرة ومتوسطة وكبيرة تستثمر في مختلف الأنشطة الإنتاجية وتشغل أكثر من 30 مليون مواطن صيني. 
وسجلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين زيادة بنسبة 18.4 بالمئة عام 2013 لتصل إلى مستوى نقدي قياسي قدر بأكثر من 300 مليار دولار سنويا ، كما حققت الاستثمارات الصينية في الخارج أيضاً مستوى قياسياً، فيما تجاوزت القروض التي منحتها الصين للدول النامية قروض البنك الدولي.  
ومع بدء الألفية الثالثة عادت أزمات النظم الرأسمالية متزامنة مع ظهور تبعات ونتائج الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي والبلقان وأفغانستان خلال العقدين 
الماضيين. 
وبتفجر الأزمة المالية – الاقتصادية منتصف عام 2008 بانهيار القطاع العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أدى إلى انهيار عدد من أعمدة النظام الرأسمالي الأمريكي متمثلا بمديونيات شركات مالية وإنتاجية كبرى، مما أدى إلى اللجوء لتدابير غير مسبوقة لتتدخل الحكومة الاتحادية الأمريكية وتمنح قروضا لعدد من الشركات المتعثرة الكبرى ، ومعظمها بنوك، التي كانت على وشك الإفلاس من خلال شراء أصولها بمبالغ تجاوزت ثلاثة تريليونات دولار (التريليون ألف مليار والمليار ألف مليون). 
وتفاعلت الأزمة المالية الأمريكية ليمتد تأثيرها إلى النظم الرأسمالية الأوروبية الغربية وفي العالم أجمع .وبحلول عام 2010 اضطرب الاتحاد الأوروبي بتفجر سلسلة من الأزمات في معظم دوله الـسبع والعشرين، فالأزمة عصفت بشدة بإقتصادات كل من اليونان وأيرلندا والبرتغال وإيطاليا وأسبانيا.
وتقف الدول النامية ذات الاقتصادات المتخلفة تتساءل :هل شاخت الرأسمالية ولم تعد قادرة على التأقلم مع متغيرات الاقتصاد العالمي فأوهنت نظمها الأزمات المالية والائتمانية والاجتماعية؟ أم أنها “وعكة” عابرة كما يرى المنظرون أن ما يحدث للنظم الرأسمالية متوقع وسرعان ما تسترد أنشطة السوق عافيتها، إذ يسجل التأريخ الاقتصادي الحديث أن دورة نظم السوق الرأسمالية تتعاقب لولبيا قد يقصر بعضها وقد يطول بين خمسة إلى عشرة 
أعوام. 
ومنذ أن تفجرت الأزمة المالية الاقتصاد العالمي منتصف عام 2008 توالت انتكاسات النظم الرأسماية تباعا، فتكشف أن معظم الشركات على وشك الإفلاس الأمر الذي دفع حكومات الدول الرأسمالية في اوروبا، ، أن تتدخل لشراء أصول الشركات المتعثرة، ما أدى إلى ضعف خزائنها، لتعلن الولايات المتحدة الأمريكية في آب 2011 “أن عجز الموازنة تجاوز قيمة الناتج المحلي الإجمالي لأول مرة في تأريخها ، ليبلغ أكثر من 14 تريليون 
دولار . 
وبدأت تتكشف مشاكل متراكمة لا حصر لها كمشكلة تضاعف معدلات البطالة ، وكانت مشكلة البطالة تتفاقم في معظم الدول الرأسمالية التي تسببت بالاضطرابات والإحتجاجات وما صاحبها من أعمال عنف كما حدث في اليونان وبريطانيا والبرتغال وأسبانيا . 
واليوم وبعد 12 عاما  من حلول الأزمة المالية العالمية، فإن بعضا من تبعاتها  لا تزال تتفاعل في عدد من دول العالم، إذ تواجه معظم الدول الرأسمالية وبنسب متفاوتة في مشكلة  البطالة والمديونيات العامة بالرغم من كل ما قامت به حكومات الدول الرأسمالية من إسناد مالي للشركات والبنوك. ويتمثل ضعف اقصادات الدول الرأسمالية الكبرى بين  ضعف النمو الحقيقي لنواجها المحلية الاجمالية أو 
محدوديته.
 ومن التحولات الجوهرية الكبرى في النظم الرأسمالية تمثل بتوجه معظم شركاتها ذات الإنتاج السلعي المادي إلى آسيا بهدف مضاعفة الإرباح من خلال خفض التكاليف الكلية للتشغيل. ولو قال أحد في الولايات المتحدة الأمريكية أن شركة واحدة تاجرت مع الصين عام 1950 لقامت الدنيا ولم تقعد يوم كان رهاب... “الشيوعية”مسيطرا على الساسة الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين.
تلك الفترة عرفت بـ (المكارثّية)” McCarthyism” الممارسة التي كانت  تقوم على اتهام الأمريكيين بوجود صلة تربطهم بالمنظمات الشيوعية   دون إثباتات كافية تدعم الادعاء وقد روّج لذلك النهج ونفذه السياسي الأمريكي (جوزيف مكارثي) (1908– 1967) وهو سيناتور جمهوري عن ولاية وِسْكانْسِن الأمريكية. إذ ادّعى عام 1950، في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة ومعها اوروبا الغربية وبين الاتحاد السوفييتي، وأن 205 أشخاص من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية ، وأن 57 آخرين أعضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي  متعاطفون مع الشيوعية السوفييتية .
وطالت اتهامات مكارثي فلاسفة وعلماء وأدباء وفنانين . وانطوت حملة مكارثي  على الكثير من الاستجوابات امام الكونغرس والملاحقات القضائية وهدفها إضعاف الثقة في أعضاء بارزين في الحزب الديمقراطي ومؤيديهم في الحملات 
الإنتخابية . 
ولم يتلاشَ رهاب الشيوعية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية طيلة سنوات النصف الثاني من القرن العشرين( سنوات الحرب
 الباردة).
واليوم وفي الوقت الذي تعاني معظم الدول الرأسمالية من عجوزات هائلة في موازينها التجارية تتصدر الصين والهند قيادة النمو وتثبيت أعمدة الاقتصاد العالمي، وكان الاقتصاد الصيني يتنامى بتسارع غير مسبوق قبل وبعد الالفية الثالثة  مسجلا نموا حقيقيا تجاوز 9 بالمئة سنويا ، إلا ان ازمات داخلية تسببت بتراجعه مؤخرا. فقد أظهرت بيانات رسمية صينية، مطلع عام 2019 ، أن ثاني أكبر اقتصاد في العالم نما بنسبة6.6 بالمئة في العام 2018، فيما يعد ذلك أضعف أداء سنوي منذ عام
 1990 .
وبالعودة إلى واقع النظم الرأسمالية في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة فإن تدخل الحكومات مشاركة البنوك والشركات المتعثرة بإقراضها المليارات ( برامج التيسير الكمي النقدي) يعد تحولا غير مسبوق في نهج النظم الرأسمالية ، وإن خروج الرساميل الكبرى إلى الصين ذات النظام الاشتراكي يعد تحولا غير مسبوق أيضا ، وإن توالت أزمات النظم الرأسمالية مستقبلا ، وإنها متوقعة ، فيتوقع أن تتخلى النظم الرأسمالية عن تلك المبادئ التي دأبت عليها
 لقرون.
 
___________________________________
(*) المنتدى الاقتصادي العالمي  World Economic Forum) ) وهومنظمة دولية  هدفها  تشجيع الاعمال وسياسات العولمة. أسسها “ كلوس شواب” عام 1971  في جنيف  بسويسرا و افتتحت لها في عام 2006 مكاتب إقليمية في العاصمة الصينية بكين ونيويورك في الولايات المتحدة.وتضم في عضويتها ألفاً من كبريات شركات العالم عادة ما تكون دورة رأس المال فيها أكبر من 5 مليارات دولار 
أمريكي.