القطيعة والوجود

ثقافة 2018/11/09
...

د . سعد عزيز عبد الصاحب
تمثلُ تجربة المسرح العراقي في المنفى تجربة حرية بالتنقيب والتحليل والدراسة لأنها جاءت أولاً تجربة طويلة نسبياً من حيث الزمن لا تشبه المنافي الأخرى للفنان المسرحي في العالم، كتجربة البولوني (سلافومير مروجيك) مثلاً أو الألماني (برتولد بريشت) أو الفرنسي (جورج شحادة) أو غيرهم، إذ إنَّ هؤلاء المسرحيين الغربيين عادوا الى أوطانهم في حين ان المسرحي العراقي المنفي ظل طيراً مهاجراً هجرة أبدية إلا ماندر من المسرحيين الذين عادوا الى وطنهم الأم ـ وثانياً لكونها تجربة غزيرة الإنتاج والسعة تمتلك (انطولوجيا) مسرحية واسعة من حيث عدد العروض المسرحية والأسماء التي أنجزتها، وحصيلة (التثاقف) والحوار الحضاري الذي خرجت به.
اسئلة المسرح
 ويبقى السؤال الإشكالي يدور حائراً حال وصول المسرحي المهاجر الى منفاه: هل يقدم المسرحي المنفي موضوعات وأفكاراً تناغي العقليَّة الثقافيَّة لجمهور الوطن الجديد؟ كأنها بضاعتنا رُدَّت إلينا، أم يقوم بتسويق نتاجه الثقافي (فولكلوره، تراثه، عاداته) بشكل درامي الى جمهور البلد الجديد؟ ويمكن استقصاء إجابات هذه الأسئلة من لحظات التمزق والانشطار في وعي المسرحي العراقي التي عاشها في المنفى فهذا الراحل (عوني كرومي) ينتهي بعد حياة طويلة في المنافي الى النتيجة الآتية: (كنا نعتقد أنَّ المسرح في بلدان المهجر سيفتح أبوابه مشرعة ويرحب بنا، ولكن على الرغم من منافستنا لهم، إنْ لم نقل تفوقنا في هذا الشأن، فإنَّ جدار القطيعة ما زال عالياً، والواقع خلاف كل التوقعات لأنَّ الآخر لا يقيمك ما دام لا يعرفك وان تنازل قليلاً، فذلك لأنه في أحسن الأحوال سيعرفك من خلال تجربتك معه واستناداً لقدرتك للانصهار في ثقافته) فأعاد كرومي في مهجره الألماني مسرحية "ترنيمة الكرسي الهزاز" تأليف فاروق محمد وأشعار عريان السيد خلف والتي لاقت صدى واسعاً حين قدمت في بغداد، وقدم أيضاً مسرحية صلاح عبد الصبور "مسافر ليل" إيماناً منه بمفهوم المثاقفة والانفتاح على الآخر من خلال الإنساني المشترك والمحلية العابرة للحدود، إلا أنَّ كلا المسرحيتين قوبلتا بفتور بالغ من قبل المتلقي الألماني، لأنَّ استمرار (عوني) في تقديم النسق الشرقي بجمالياته وأفكاره من دون خلق مزيج ثقافي غربي/ شرقي متوافر على مشكلات وأجواء غربيَّة محضة لن يجد له اذاناً صاغية في ذهن جمهور المهجر، وبطبيعة الحال فإنَّ المتلقي الجديد يريد أنْ يشاهد مشاكله وعلله شاخصة على الخشبة فهو قد يقبلك ببضاعتك بادئ الأمر إلا أنه يريدك أنْ تنصهر بثقافته ومشكلاته اليومية في ما بعد، لذلك ظلت هذه العلَّة حاكمة في فضاء الاستهلاك الجمالي للمتلقي بالنسبة لمسرحيي المنفى، كل هذه الأسئلة والاستفهامات نناقشها من خلال قراءتنا لكتاب "المسرح العراقي في المنفى" للباحث محسن راضي.
 
مسرحيات من المنفى
 انتقى فيها الباحث أسماء مثل (فاضل الجاف وحازم كمال الدين وجواد الأسدي وعوني كرومي) على اختلاف أساليبهم الإخراجية وتوجهاتهم الفكرية والجمالية بوصفهم من المسرحيين المؤثرين في المهجر، ولديهم تجارب نفي في بلدان مختلفة، ففاضل الجاف يزاوج بين التقنية المسرحية الغربية ممثلة بمنهج (البايو ميكانيك) في عمل الممثل ومصطلح (البنائية) في السينوغرافيا للمسرحي الروسي (مايرهولد) والموضوعات الشرقية وأجوائها الخيالية من منظور غربي كما في مسرحية (حلم ليلة صيف ) لـ(شكسبير) واعداده المائز لحكايات (ألف ليلة وليلة) وإخراجه لمسرحية (المهاجران) لـ(مروجيك) بنسقٍ وظف فيه مبادئ البايوميكانك والبلاستيكا الجسدية مع نص اغترابي حالم، فالجاف مسرحي متحرك أذاب موضوع المنفى بالعمل المستمر في أكثر من مكان منجزاً للورش المسرحية فكان بحق وسيطاً
 للثقافات..
أما تجربة المسرحي حازم كمال الدين فكانت أكثر انحيازاً للطقس المسرحي الشرقي والمستعاد من الممارسات الدينية والبدائية ولكن بأساليب جسدانية غربية اعتمدت فنون (الكيروغراف) و(البانتومايم) متمكناً من تأليف نصه البصري بمواضعات مغلفة بروح شرقية فكمال الدين لم يستطع الخروج من دائرة المزاوجة بين الثقافتين الغربية والشرقية، فنرى في عروضه حدثاً شرقياً ورؤية فنية تقنية غربية في عروض (دماغ في عجيزة) و(ساعات الصفر) و(الاسفار) ولكنْ ربَّ سائل يسأل: لمَ أخذ كمال الدين بتأليف نصه بنفسه ولم يغرف من المنظومة الدرامية الغربية متنوعة الأنواع الفنية؟ وذلك لأنه ابن تجربة مجتمعين وبيئتين مختلفتين، فمن يستطيع أنْ يجمع بين هاتين البيئتين المتنافرتين ويعبر عنهما درامياً سواه..
 
عائق اللغة
وينتقل الباحث لأكثر مخرجي المنفى حركيَّة وانتشاراً وتجذراً في المنافي والبلدان، فجواد الأسدي يختلف عن الأسماء الآنفة بكون منفاه جاء عربياً خالصاً إلا في بعض سني لجوئه القصيرة في السويد، وهو بذلك يتخلص من عائق اللغة وما تخبئه من عصي بوجه الخطاب المسرحي في المنفى، واهتم الأسدي بقضايا عربية خالصة كالقضية الفلسطينية والأرض والثورة والسلام والدكتاتورية والعنف الثوري بعروض (الاغتصاب) و(راس المملوك جابر) و(عائلة توت) و(خيوط من فضة) الى أن تحول الى كتابة نصه بنفسه بعد فهمه واستيعابه لتجربة المنفى العربي بقضاياه الإنسانية المشتركة ولكن بقي العراق شاخصاً في موضوعات نصوصه كـ(نساء في الحرب) و(حمام بغدادي) و(مندلي) وغيرها.
ويطيب للباحث محسن راضي ان ينعت الاسدي بكونه (غجري المسرح العربي) نتيجة الانتقال المستمر والتيه بين الأمكنة والمدن التي ما زال يبحث فيها عن ضالته من خلال مكانه الأثير خشبة المسرح.
وفي نهاية الكتاب يدرج الباحث جدولاً بأسماء مسرحيي المنفى المنتشرين في أرجاء المعمورة زادوا عن المئتي فرد بين ممثل ومخرج وتقني ومؤلف والعدد مرشح للزيادة طالما لم تتوفر البيئة الملائمة للنشاط المسرحي المستمر والمدعوم من قبل الدولة والقطاع الخاص معاً.