عبد العظيم فنجان: لستُ ضمن الصورة الجماعيَّة للشعراء العراقيين

ثقافة شعبية 2019/07/24
...


حاوره في بغداد: حسن جوان
 

لم يكن يمارس ترفاً روحياً حينما اختار الحُبّ ثيمة دائمة، لأنّه رأى بوعي عميق أن يتخذ من قصيدة الجمال وسيلة مضادة في زمن العنف. الشاعر عبد العظيم فنجان، الذي كرّس مئات النصوص والقصائد المبثوثة في مجاميعه لمواجهة عالم  طارت منه فراشات الشعر، وغادرت سماءه تلك الغيوم البيض التي يحلم بها. اصدر “أفكر مثل شجرة” و”كيف تفوز بوردة” و “الحب حسب التقويم السومري” و “الحب حسب التقويم البغدادي” و “كمشة فراشات” واخيراً مجموعته “الملائكة تعود الى العمل” إذ التقيناه بمناسبة إصدارها مؤخراً فكان هذا الحوار الخاص بـ “الصباح”:
 
* بعد أربعين عاماً من كتابة الشعر، وبعد عدة انجازات شعرية مهمة، بماذا تشعر وكيف وجدت الطريق؟! 
- أشعر أنّي مازلتُ صبيّاً يحبو في طرق الكتابة وهذا الشعور يُلازمني دون أن أكون تحت وطأة مؤثر خارجي، ولعلّني أفقد رباطة جأشي، تحت تأثيرات هذا الشعور، فأتمنى لو أني لم أكتب يوماً. الكتابة هواية شاقة لمن يضع نصب عينه الرضا الداخلي، رضا الروح القلقة والمتوجّسة، خاصة وأنني لا أكتب بوضع مستقر أو مستريح. دائما ـ عند الكتابة ـ ما أكون هائجاً وقلقاً، ويستمر ذلك حتى تأخذ القصيدة طريقها إلى النشر، فأنا من النوع الذي يعيد تحرير قصيدته مرات لا تحصى، وحتى لو وصلت إلى الكمال المطلوب أظلُّ قلقاً بشأن مفهوم الكمال نفسه، فأرجع وأعيد صياغتها، ولذلك فهناك قصائد مكتوبة بعدة صيغ، لكنني أتحول إلى جرّاح ماهر، ساعة الحسم، فأختار صيغة معينة، وأنشرها. انتبه لذلك صديقي الشاعر والناقد حسن الكعبي، فقد تركت لديه معظم أوراق قصائدي المكتوبة في إيران، عندما وليتُ هاربا منها، أخبرني أنه وجد نفسه في حيرة من تعدد الصيغ للقصيدة الواحدة، ومن تمكني من نشر صيغة أخرى جديدة لها، في كتاب “أفكر مثل شجرة”، رغم عدم احتفاظي بمسودة أو مخطوطة.
لقد وجدت الطريق بالحدس. لم يكن لي معلّماً، بالمعنى المعرفي، ولا شيخاً، ولا أنيساً. سرتُ وحيدا في طريق وعر، حتى وصلت إلى اللمعان الذي قد يأخذني إلى اللؤلؤة، فمازلت صبيا يحبو في طرق الكتابة.  
 
* راهنت منذ البداية على قصيدة الجمال في وسط مليء بالعنف، ولم تتطرّق مباشرة إلى المناخ الذي تنام فيه قصيدتك العاشقة، ما الذي غذى يقينك إلى هذا الحد؟
- لم يشهد العراق فترة استقرار سياسية، أو أن استقرار العراق سياسياً كان مثل بحر من الرمال المتحركة، فدائما هناك الرعب والخوف، منذ طوفان نوح وحتى الآن، مع ذلك كان هناك نشيد الإنشاد، والترانيم والأغاني، فالسعادة هو منتهى أمرها، كما يقول بورخس، وهكذا فالعنف لم يكن مشهداً سينمائياً، بل هو وقائع عشتها في مختلف الحروب التي عصفت في العراق، لكن الانحياز الروحي للجمال هو ما أبقاني حيا، بالمعنى الحرفي للكلمة، وهو ما ألهمني، لكنه جمال لا يخلو من الأسى.
لقد ولدت حداثة بودلير في وسط باريس، المتحولة من الاقطاعية الى المدينة الصناعية: شوارع عريضة، أسواق وحشود من البشر. أما أنا فقد ولدت حداثتي مع تحول بغداد من مدينة عريضة، واسعة ومكتظة بالبشر، إلى مدينة تعج بالانفجارات وبالعنف، وهو المناخ الذي ولدت فيه مجموعة الحب حسب التقويم البغدادي. إن الشاعر، أو المبدع الحقيقي، هو مَن لا يخرج من حقله الجمالي إطلاقاً، مهما كانت الظروف، وهو من يحول التعاسة إلى أسباب للعيش، وهذا ما أعنيه بالنضال الشعري : زرع الجمال، رغما عن بركة الوحل الآسنة ..
* نصوصك الشعريَّة خالية من رماد الحروب، وضوضاء الوطن المنفعل كلّ يوم، هل تعتقد أنّ الشاعر ليس له أن يتورَّط في تدوين القبح؟
- الشاعر، الذي أؤمن به، ليس مؤرّخاً، ولا رساماً ولا نحاتاً ولا روائياً، رغم أننا نعيش في عصر تداخلت فيه كل الفنون. لقد مضى الزمن على مهمة الأرشفة، والقول التاريخي، يوم كان الشاعر يعمل في منطقة القبيلة، العشيرة والدين والتقاليد، ولم يعد الشعر الحديث ديوان العرب.
شاعر اليوم، أو أنني كشاعر، مهتم بالوقائع الشعورية، بالاختلاجات الروحية، بكلام آخر بتأثيرات المطر، الحرب والغبار والجوع والحصار، وحتى قصيدة الحب التي أكتبها، تتوغل في تأثيرات الحب، في أسبابه ونتائجه. وبالمناسبة: هل الكلام في أو عن الحب يمثّل نقيصة في زمن القتل والنهب؟!
إنّني مهتم بتأثيرات القتل والنهب والفساد على الحب، مهتم بالحرب الداخلية: داخل الفرد نفسه، وهي من أعظم الحروب، وهذه أشياء تعتري البشر في العراق، في الوطن العربي، وفي مختلف أنحاء العالم.
في هذه المناسبة كتب الناقد والمترجم المغربي رشيد وحتي، في مارس 2016، في صفحته الشخصية على الفيس بوك ما يلي: (الشاعران العراقيان الوحيدان: سركون بولص وعبد العظيم فنجان..”العراقيان” هنا هي حجر الزاوية.. الباقون، لكل رافعته غير الشعرية)، وأعتقد أن وحتي أراد أن يقول بطريقته، أن بولص وفنجان مهتمان بالوقائع الشعورية، بالباطن وبعزلة الروح المتألمة، غير مبالين بالأثر الجمالي لشعرهما أو لشهرتهما، وهما الأبعد عن أي رافعة سياسية أو دينية، اعتماداً على قواهما الروحية. 
تعقيبا على ذلك: أنا غير مهتم بالقصيدة السهلة، ولا أكتب بسهولة ، فالقصيدة تعيش معي طويلا بعد كتابتها، قبل نشرها، ولذلك أحرص على أن تكون خالية من كل قبح، لغة ومعنى.
 
 * قبل فترة نشرتَ على صفحتك الشخصية ما يلي :”لو التقط الشعراء العراقيون صورة جماعية، فلن أكون فيها” ماذا يعني ذلك؟ 
ـ أنا لست في الصورة قطعاً، وأختلف عن الشعراء العراقيين، اجتماعياً وثقافياً، ليس بمعنى الأفضل أو الأسوأ، وإنما لأنني أعيش على قوت روحي، دون علاقات زائدة، ودون التزامات دينية أو سياسية، وأيضا دون مزايدات وطنية: لم أنتدب ناقداً للكتابة عني، وعلاقتي بعدد من النقاد هي علاقة احترام ومحبة، لا تشوبها أي منفعة شخصية، كما أنني أعيش بعيداً عن متطلبات العلاقة في مجتمع الثقافة: لا أرود مقاهي المثقفين أو أسواقهم أو مجالسهم، ومَن يتحدث معي عن الشعر لا أتجاوب معه  لأنني ملول، أكره التلفيق والكذب وأتمتع بسلاطة لسان تجعلني أفقد توازني عندما أغضب، لذلك أتجنّب التجمعات، أتجنّب إبداء الرأي، وأتجنّب أن يعرف أحد ما، إلّا صديق أو صديقان، أنني موجود في المكان الفلاني وكثير ما دعيت إلى المهرجانات ولم أحضر بسبب شعوري بالغربة، لأنّ طبيعة شعري ومرجعياته تختلف عن طبيعة ومرجعيات الأغلبية، ليس بمعنى الأفضل أو الأسوأ، مرة أخرى.
* هل يمكن وصف قصيدتك بأنّها قصيدة حبّ، أم أنّك تعدّ الحبّ تعبيراً أشمل لمعنى الجمال؟
ـ تطوّر فهمي للعالم، مع صدمة ما بعد 2003، فضلا عن الدمار النفسي والروحي، دفعني للتعلّق بقشّة الجمال التي كانت طافية فوق بحر من الكراهية، وكما أنقذتني تلك القشّة من الموت في الحروب الكثيرة، عندما كنت أكتب رسائل الجنود في الثكنات، أنقذت شعري من الانحطاط، ومن الانصراف عن هواجس الشاعر الفوق تاريخي، حتى رأيتُ أن تلك القشّة لم تكن سوى كِسرة الجمال المتبقية من طفولتي، أيام كنت عاشقاً بريئاً لبنت الجيران، وعندئذ أمسكت الخيط المؤدي إلى خلاصي على الأقل: لم يكن ثمة مجابهة أقوى من الحب بيد الفرد الأعزل، إذ لم أكن من هؤلاء ومن أولئك. لم يكن معي إلّا الإفلاس والتشرّد ومصادرة بيتي وطردي من الوظيفة، ومعظم الشعراء الذي أعرفهم يملكون مورداً على الأقل، وهم يملكون الإعلام والعلاقات أيضاً. هكذا وُلد كتاب الحب، الذي ينطوي على مشاعر وهواجس سومري أو بغدادي أو عراقي مطارد بين البلدان والحضارات والشوارع الخلفية، لأنّه يمتلك المعرفة، ويحمل الشعلة.
 
* هل تؤرِّخ مجاميعك الشعريّة على ترتيب إصدارها لمراحل الكتابة لديك، أم لمراحل القلب الذي شوَّشتْ أداءه الخيبات؟
- لا أهتمُّ بتاريخ الإصدار، وإنما بواقعة الكتابة نفسها. فمجموعة “أفكرُ مثل شجرة” صدرت في صيف عام 2009، لكنها مكتوبة في مراحل حياتية ومعرفية سابقة لهذا التاريخ، ولذلك هي لا تشبه، لغة وموضوعا، مجموعة “الملائكة تعود إلى العمل” التي صدرت في ربيع هذا العام. إنّ وجود قصيدة ما في مجموعة “كيف تفوز بوردة” لا يعني أنّها مكتوبة بحمى واحدة، أي بحمى تكوين المجموعة، فقد تكون مكتوبة قبل عشرين عاما، لكن مكانها الحقيقي الذي يوسّع دلالتها هو في هذه المجموعة، وبالمناسبة: لقد أصدرت مجموعة شعرية صغيرة، ضاعت الآن، بعنوان “كيف تفوز بوردة” عندما كنت في إيران. كانت محاولة بائسة لجمع ما كتبته، ولم أوزعها بل بقيت في أدراجي، وتركتها هناك حين خرجت من إيران. كان ذلك عام 1995، لكن تلك المخطوطة كانت نواة مجموعتي البكر “أفكر مثل شجرة”، أما كتاب الحب، بقسميه البغدادي والسومري، فقد ضمّ قصائد حبّ كتبتها في مختلف مراحل حياتي، أي أن قسماً كبيراً من تلك القصائد كان موجوداً، قبل أن أصدر مجموعتي “أفكر مثل شجرة”، وتلك القصائد كانت النواة التي من حولها تكوّنت مجرة كتاب الحب الذي ظهر للأسف بشكل مستعجل من دار الجمل، وها أني بصدد إعادة إصداره بالشكل الذي كنت أحلم به.
 
* هل أفهم من هذا أنّك بصدد إعادة طبع مجموعاتك الشعريّة!؟
أصبح “كتاب الحب” جاهزاً للطبع، فقد أعدتُ صياغة معظم القصائد، خاصة في القسم البغدادي، وسوف أدفعه للطبع حالما تجهز المقدّمة له. كما أن هناك أكثر من دار نشر عرضت أن تُعيد طبع كتبي الشعريّة، ولم أحسم الأمر بعد، لانشغالي بمجموعتي المقبلة “نشيد الانصراف” التي، تاريخياً، يصح أن تكون الثانية بعد مجموعة “أفكر مثل شجرة”، وتتضمن قصائد كتبتها في تسعينات القرن الماضي، في عمان وبغداد وكركوك وقم الإيرانية، وكما ترى، فطبع المجموعة يأتي تالياً، وهو مشروط بمناخ روحي خاص.
 
* لِمَ تتبنّى فلسفة الخسارة في الحبّ، هل ليجتمع الوجع والفقدان معاً، لتكون حرقة القصيدة أشدُّ  لوعة؟
- من الطرائف أنّي دعوت إلى تأسيس “جمعية الخائبين والخائبات في الحبّ وفي السياسة”، فنحن خضنا تجربة أكبر خسارة: خسارة الأمان والحرية والحبّ.
العراق بلد الثكالى والأرامل والمعاقين، وهؤلاء خاسرون في الحبّ وفي السياسة، كما أنّ هناك عوقاً روحياً شبه عامٍ سبّبته أديان الربيع العربي، فلم يعد الأحياء يعرفون مَن هم، ولا ما هي هوياتهم، بعد تسلّط الأصوليين، في كافة أنواعهم. لكن الكلمة الطيبة صدقة، فهل أكتفي بالكلمة الطيبة، أم بالكلمة الطيبة المضمّخة بالدمع والندم والحسرة والخسارة؟!
“لن أكتب كلمةً خانعةً” قال الشاعر العظيم رينيه شار، وهذا ما أفعله: أن أقدم القصيدة الشافية لكن المحرّضة، ولا تحريض أعمق من شعور المرء بالخسارة، وهذا جوهر رسالتي.