مفخّخة في أمستردام

الثانية والثالثة 2019/07/24
...

عدنان أبوزيد
 
لا يزال النصْب “العراقي” في العاصمة الهولندية، أمستردام، ويجسّد “أشلاء” سيارتين مفخختين جلبتهما منظمة (أي كي في) الهولندية للسلام، من بغداد، يجذب الزوار، مذكّرا بإرهاب عمّ أنحاء العالم، واستقرّ في العراق، بشكل خاص.
وإذا كان مستوعَبا، أنّ هذا النصب المتفرّد، المثير للمتابع الغربي، هو ادانة لعمليات القتل بواسطة تفخيخ الاشخاص والسيارات في الساحات العامة، لقتل أكبر عدد ممكن من الناس، الا انه يكشف عن غياب “الاستثمار” في العراق لمرحلة العنف التي مرّ بها، وانحسار كتابة التاريخ بالنصب والتماثيل، وصناعة الرموز، التي تسهم في وحدة الصف ونبذ العنف والفتن القومية والطائفية، عن طريق استذكار مآسيها وضحاياها.
وإذا كانت مفردة “المفخّخة” مخيفة بعض الشيء، للجمهور الغربي، غير انّ عرْض هذا الهيكل الحديدي المتهالك، في ساحة (لايدسه بلاين) في قلب امستردام اضفى على المكان “روعة” خاصة، لأنه أصاب الغاية، عبر التقاط صورة “دخيلة” على البيئة الهولندية، “تذكّر الجميع بانّ السلام واجب عالمي، وانّ على الشعوب التعاون من اجل ذلك”، وفق مستطرق هولندي وصلت كلماته الى مسامعي، حيث أقف الى جواره.
استنهاض ذكرى الويلات، بالأشكال الجمالية والنصب الفنية، بات ضرورة تحتاجها مدن العراق، كي لا تنسى الأجيال، معاناة الآباء والاجداد، ولعل البلدان الاوروبية سبّاقة في هذا المجال، فلم تترك موقفا تاريخيا، سواء في السلام او الحرب، إلاّ، وجسّدته بأمانة، اعترافا منها بأهمية تحويل التاريخ الى إشارات مادية حاضرة.
لم يعد التاريخ سجلا ورقيا في رفوف المكتبات، أو مخزونا رقميا في أجهزة الحواسيب، بل حالة يومية يعيشها الانسان وهو يتجول في ميادين المدن الكبرى التي تضم صروحا ونصبا وحدائق، تؤرّخ لحدث أو تذكّر بشخصية، بينما لم ينسحب التاريخ العراقي الى الآن على الحالة اليومية، وساحات المدن، ليستقر الى حدود كونه كتابا مدرسيا، او بحثا في الجامعات، لا يتعدى في أهميته، حدود الدرس والبحث. 
أنشأت اليابان متحفا للسلام في هيروشيما في حديقة قرب مكان سقوط القنبلة الذرية، يعرض تفاصيل الضربة التاريخية، ودمار المدينة، بأحدث الاجهزة السمعية والبصرية، وفق بناء معماري، مهيب. 
وحوّلت حكومة المانيا الغربية ملجأ للحماية من الصواريخ النووية، الى متحف يصوّر فترة الحرب الباردة.
واقيم نصب تذكاري في واشنطن لضحايا الحقبة الشيوعية، لاستيعاب دروس الحرب الباردة، حيث “الشر والكراهية أديا إلى مقتل ملايين الأشخاص في القرن العشرين”، وفق تعبير الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، الابن. 
بل إنّ الولايات المتحدة خلدت ذكرى 4 آلاف كلب نفقوا في الحروب التي خاضتها خارج حدودها.
وفي لندن، يرتفع في الفضاء، نصب تذكاري لتكريم الحيوانات والحشرات التي تحمّلت المصاعب مع القوات المسلحة البريطانية.
لم تعد مسؤولية تسجيل الاحداث تقتصر على المؤرخ التقليدي، وحده، بل اصبحت واجبا على الفنانين والمهندسين والمثقفين، وحكومات المدن، والجامعات، من أجل كتابة التاريخ، لاسيما القريب منه، حيث الاضطراب الأمني والسياسي، يحول دون أرشفة الكثير من الاحداث المهمة، التي تشكّل حلقة مهمة في التاريخ العراقي. 
لا تزال الفرصة سانحة، أمام روح الإبداع، فنيا، وادبيا، وهندسيا، في استحضار المنهج العلمي في تخطيط المدن والساحات، واغنائها برموز الاحداث القريبة، لاسيما تلك التي سببت الآلام والاوجاع، للعراقيين، لكي لا يقتصر استذكارهم لمآسيهم وحروبهم، بزيارة قبور الضحايا والشهداء فقط، بل في رموز فنية وهندسية دقيقة الصناعة، تعيش معهم في كل الأماكن واللحظات.